جاد الغيث |
لا أدري كيف دخل صوته إلى عالمي، مع أن الوقت كان ظهرًا والناس حولي في ضجيج! لكن بحته الخشنة العدائية أثارت في نفسي جرحًا دفينًا، وأعادتني إلى خمس عشرة سنة ماضية!
صراع لا أعلم كم أخذ من وقت، وأنا مستغرق في تفاصيل العذاب القديم في سجن تدمر، أحسست بوقع السياط على جسدي من جديد، كدت أصرخ من الألم المعنوي ورحت أنتفض كعصفور جريح، وأرتجف فزعًا وأنا في حر الصيف.
كأني عدت إلى المعتقل بمشاعر حية، وعادت أصوات أصحابي واضحةً قويةً، كم هي طويلة الأعوام التي مرت! وكم هي قاسية ذكريات الألم الذي لم يهدأ لحظة!
(اسحبوا هالكلب … ابن الكلب..) ويجرني أحدهم وأنا معصوب العينين، البلاط البارد كالثلج ينخر عظامي، والدماء تنزف من كل خلية في جسدي المنهك من وقع السياط، ومفاصلي تئن من أثر (الشبِح) لأكثر من ست ساعات متواصلة.
يبتكر الجلاد في كل حفلة تعذيب شتائم لم أسمع بها من قبل، وصوته الموغل في الوحشية والقسوة يحفر سراديب في روحي، لا نهاية لها.
ما أزال في مكاني، يزداد الضجيج حولي، وما زال صوت الجلاد يخترق كل الأصوات المحيطة بي ويصلني كالرصاص، هل ألتفت لأرى وجهه؟ هل هو حقًا؟! ربما أتخيل فحسب، لا، مستحيل أن يكون ذلك خيالاً، فأنا قادر على تمييز صوت الجلاد من بين آلاف الأصوات. “يا أولاد العاهرة، يا كلاب، يا خنازير..” يأتي صوته إلينا وهو يفتح باب الزنزانة، فأتخيل وجه أمي وهو يسب أمهاتنا وأخواتنا، ويزداد وجعي وأنا لا أقوى على الرد، يعوي بنا كذئب مفترس وهو يضربنا (بكبل رباعي) ويقودنا إلى الحمام عبر ممر طويل بلا نهاية، السقف العالي للممر يضيف لصوت الجلاد صدى مرعبًا لا مثيل له، ومع ازدياد وقع السياط والسباب والكفر، كنت أشعر حينها بعذاب الذين يساقون عنوة نحو الجحيم الأبدي.
في سري أتذكر صوت أمي من جديد وهي تطبع قبلة على رأسي وتقول لي:
(نعيمًا) بعد حمام المساء.
الحمام هنا يا أمي شقاء وعذاب، سياط وشتائم، واحتراق …!! هنا يا أمي يدخل الجلاد إلى مقصورة الحمام ليتابع ضرب المعتقلين، الماء في حمام سجن تدمر يغلي كالحميم، لا باب يستر عوراتنا، ولا شعور بالحياء ونحن نستحم معًا، كل خمسة معتقلين تحت صنبور واحد، وللكل صابونة واحدة، ومدة الاستحمام خمس دقائق فقط.
خمس دقائق فقط يا أمي، هل يستحق كل هذا الشقاء كلمة (نعيمًا)؟! “نعيمًا يا خنازير، .يا كلاب البراري، ريحتكم صارت متل الفطائس..”
يُعيد الجلاد كلماته ويضحك مستهزئًا بثيابنا المبللة وجلودنا المحمرة من وقع السياط وأثر الماء الذي لا تطاق حرارته، نعود عبر الممر الطويل ذاته إلى الزنزانة منكسي الرؤوس، وصدى شتائمه وكفره يخترق صدورنا العارية كسكاكين حادة.
أعود إلى واقعي أنظر حولي، فأسمع ضربات قلبي بوضوح، لا شيء يثير الفزع هنا، أنا في سوق المدينة، والناس حولي مبتسمين يشترون الحلوى والثياب الجديدة لقد اقترب العيد، ووجوه الأطفال البريئة ترسم ابتسامة عريضة على وجهي، أتذكر طفلي القادم بعد شهر، تتسع ابتسامتي، فيختفي صوت الجلاد، كأني كنت في رحلة عبور للزمن نحو الوراء!!
بطبيعة الحال أنقل إليكم ما شعرت به بكل صدق وإحساس، قد يظن البعض أني أعيش حالة تشبه ما يعرض في برنامج (ظواهر مدهشة)، لا، لا، صدقوني إنها حقيقة متكاملة بكل تفاصيلها، فكل المعتقلين الذين خرجوا من المعتقل مازالوا يجاهدون حتى اللحظة لكي يخرج المعتقل منهم!!