جاد الغيث |
في ليالي الضباب الحزينة تفوح آلام من عبروا في السنة الماضية وما قبلها، فالضباب الكثيف ليلة البارحة أعاد رسم صورة صديقي (علي) المشبع وجهه بحمرة الحنين إلى حلب وهو يعيش تجربة مفاضلة الموت مع زوجته من خلال عبورهما على صفائح بلاستيكية لا تمنع تسرب ماء نهر العاصي إلى داخلها، ما أخاف (علي) وجعله يتأهب لأي كارثة لإنقاذ زوجته وطفلته الصغيرة، خاصة أنه عندما عبر الحدود مستغلاً الضباب سمع من المهرب أن النهر ابتلع في الليلة الماضية شابًا في ربيع العمر لا يُجيد السباحة عندما امتلأت تلك الصفائح بالماء أثناء العبور وغرق! بل إن صديقي (علي) روى لي أن المهربين نعتوا نبأ غرقه عبر وسائل تواصلهم بأنه (فطس) دون أي تدخل منهم!
لقد كان الضباب بالنسبة إلى صديقي وزوجته جند من جنود الله أُرسل لإنهاء معاناة عام ملؤه المحاولات والمغامرات التي خاضها للاتقاء بأهله الذين حُرم منهم منذ أعوام، ومنذ ذلك اليوم يحدثني (علي) أنه وزوجته يُحبان الضباب كلما ظهر.
كل ليلة مئات من السوريين يعبرون الحدود بحثًا عن عمل وأمان وحياة أفضل بوساطة مهربين تزداد عمولتهم وتسوء خدماتهم.
المعاناة والانتظار يختلفان من حالة لأخرى، قد تعبر بمشقة مقبولة من المرة الأولى، وقد تتجاوز محاولات العبور عشرات المرات خلال شهور وكلها تبوء بالفشل،
وقد تعبر ماشيًا خائفًا ممرغًا بالوحل، وتعود عبر معبر رسمي في باصٍ مكيف جالسًا مطمئنًا وفي يدك زجاجة عصير تشبه عصير قلبك المنكوب، وهذا ما حدث مع صديقي الآخر (صفوان) حيث غادر مدينة دركوش ماشيًا وعاد إلى معبر (باب الهوى) راكبًا.
حلم (صفوان) بالعبور إلى تركيا يراوده منذ ثلاث سنوات مضت، ليس بحثًا عن عمل أفضل، ولا هربًا من التجنيد الإجباري في صفوف قوات الأسد، ولا لينعم بحياة أكثر رخاء، إنما عبوره كان بغرض رؤية ابنه الذي غادر سورية وهو يحبو برفقة أمه المريضة التي اضطرت لترك زوجها وابنيها الآخرين لتمضي نحو رحلة علاج من مرض خبيث لم تنتهِ منه بعد.
أكثر من عشرين ساعة متواصلة من مشقة المسير في جوف الليل والبرد والضباب والخوف، لكن وعورة الطريق كان يمهدها الأمل، فلكل عابر أمل يدفعه لتحمل عناء الرحيل، فعلى الطريق ترى سيدة مريضة على مشارف الستين تحلم برؤية أبنائها، وشابًا يريد عملاً يمكنه من إعالة أسرته التي تعيش في المخيم، ورجلاً مستعد أن يصل الليل بالنهار ليرسل إلى أطفاله نقودًا تجعلهم يعودون إلى المدرسة.
أحلام شتًى تمزقت فجأة حين وقف جميع العابرين كمسامير متجمدة في مواجهة
(الجاندرما التركية) لم يتعرض أحد للضرب، واكتفى الضابط التركي المسؤول برفع صوته بألفاظ تركية لم يعرف أحد معناها، ثم قدموا للعابرين زجاجات ماء وعصير وبسكويت وهم داخل الحافلة التي ستعيدهم إلى الأم الحبيبة سورية.
انتهت رحلة الشقاء بالنسبة إلى صديقي (صفوان) لأنه قرر ألا يعيد التجربة مرة أخرى، مُتحملاً نزيف قلبه وأشواقه لرؤية ابنه، بينما سيعاود الكثيرون تكرار المحاولة للدخول إلى تركيا ربما برفقة مهرب آخر، وستبقى الحدود دائمًا سطورًا تكتب كل يوم آلاف الكلمات الموجعة التي لن يجف حبرها مادام الألم يتجدد كل يوم، ولعل آخرها تطبيع العرب مع الطاغية الذي تسبب بتهجيرنا عبر الحدود وفي بلدنا.