صهيب إنطكلي |
مظلم جدًا الطريق إلى الجامع عند الفجر، ولكن العتمة يبددها وعدُ اللهِ سبحانه للمشائين في الظلماتِ بالنور التام يوم القيامة، المصلون قليلون ولكنهم الصفوة.
بعد الصلاة جلس العمُّ (أحمد) ليقود حلقة قرآن الفجر الذي تشهده الملائكة، حملتُ مصحفي وجلست معهم، كنّا تسعة، خمسة منّا أطفال لم تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة، كنتُ آخر الحلقة وخاتمتها، إنّهم جميعًا سيتلون قبلي، والصغار أولًا، بدأ الطفل حسن يقرأ ويرتل ترتيلًا جميلًا ومتقنًا ومنضبطًا بأحكام التجويد ومخارج الحروف، نستمع إليه وننصت، وبعد أن أتمّ صفحته، قال العم أحمد: “فتحَ الله عليك يا حسن، الآن استخرجْ لنا أحكام التجويد من الآية الثالثة” حسن يعطينا الأحكامَ بدقة متناهية، وهكذا قرأ بقية الأطفال، كلهم مميزون وأشدُّ إتقانًا مني.
لم يكن حالي عندما جاء دوري بالقراءة وتلقي الأسئلة كحال أولئك الأطفال الصغار، كنت أشعر أن الأسئلة تنهمر عليّ كمطر الشتاء الغزير محاولاً تجنبها بما تعلمته من التجويد بعد أن بلغنيَ الكِبر، ماذا لو أتقنتُه في طفولتي؟ لماذا لم أحفظِ الآيات وأرتّلها منذ ذلك الحين؟ وهل لي أن أحفظَها الآن بيسر وسهولة؟ وهل العلم في الصّغر له الأثرِ نفسه في الكِبر؟ أسئلة كثيرةٌ راودتني في مجلسي أحاول البحث عن إجابة لها
نعم، إن التعلم في الصغر كما أثبت الباحثون والتربويون يبقى منقوشًا في ذهن الطفل، كما تُنقش الرسوم أو الحروف على الصخر، وإن الإنسان إذا ظفر بالعلم وفهمه منذ طفولته صار عنده كالسجية أو الغريزة يشبّ عليه، ومَن شبّ على علمٍ شابَ عليه … وصدقَ قول الشاعر:
ولو فُلِقَ القلبُ المُعَلَّمُ في الصِّبا … لَأُلفِيَ فيه العلمُ كالنقش فِي الحجر
ورأسُ العلم القرآن، فبتعليمه للطفل صغيرًا فوائد عظيمة؛ منها:
تقوية ملكاتِ الطفل؛ كالحفظ، والقراءة، ومخارج الحروف، وغيرها، الأمر الذي يقدم له فوائد هائلة في حياته العملية، هذا بالإضافة إلى الأخلاق الجميلة التي يشبّ عليها؛ فالقرآن أعظم مُهذِّب للإنسان، ومقوِّم للسلوك.
وبالقرآن يتعرّف الطفل مبكراً على الصالحين، وعلى رأسهم أنبياء الله تعالى، فيتخذ من هؤلاء العظماء قدوات له؛ يتأسى بهم، ويسير على نهجهم، ويُطيع الله تعالى كما أطاعوه هم، كما يتعلّم الطفل اللغة العربية بشكل جيّد، ويتمكَّن منها، ممّا يجعله أقدر من غيره على التحدّث بفصاحة وطلاقة، خاصّةً أنّ القرآن الكريم يعدُّ الكتاب الأول الذي أسهم في حفظ اللغة العربية من الاندثار، ومن الطبيعي أن يتربّى الطفل بين الصالحين، ويبتعد عن الأجواء الفاسدة التي تهدم الإنسان، والمُجتمعات.
تنفّس الصبح وأنا أمشي على استحياءٍ إلى بيتي، أذكر الله وأعِدُ نفسي بأن أجعل سنوات طفولة أبنائي سنوات تعلّمٍ واجتهاد وقرآن كحسن وأقرانه في الحلقة.