البرد القارس في تلك الليلة لم يطفئ لهيب النار في قلوبنا ونحن ننظر من نافذة الحافلة إلى تفاصيل الطرقات في الشام، كانت تودعنا والسماء تبكي فيختلط دمعنا بدمع السماء… كنت أمسح وجهي بيدي المبللتين وهما ترتجفان، وماكنت أدري أمن مطر تلك الليلة أم من مطر عيوني…
انطلقت الحافلة مسرعةً وعيوني ترسم آخر الصور لمدينة الياسمين، ذاك الذي كان لونه أسودَ ولم أعد أرى بياضه منذ ذلك الحين…
حاولت أن أشتم عبق التراب بقدر ما أستطيع، وأن أحمل في رئتي رائحة الوطن المبلل والماء ينسكب عليه ماحياً كل أثر لوجودنا هناك…
ليلة التهجير من دمشق… ماتزال تلك الليلة عالقةً بذهني جيداً، كأنَّها عصية على النسيان، تنبش في ذاكرتي وتنكأ الجرح كلما التأم…
باعوكِ يا دمشق بثمن بخس واشتروا به خمراً ليسكروا فوق الجثث ويتمايلوا كالمجانين، فقد انتصروا على الإنسانية، وعليهم أن يحتفلوا بخروج ذاك المارد الشعبي الذي أرعبهم منذ ست سنين…
عليهم أن يسكروا حدَّ الثمالة وينسوا أنَّهم بشر ليمارسوا أعمالهم الحيوانية بتجرد دونما خجل،
فهم تحت أنظار العالم وعليهم أن يكونوا بأبهى حلة…
لم يريدوا لذاك الشعب أن يعيش بثوب الحرية والكرامة، وأن يولد من جديد، فوأدوه فور ولادته بعد ما عانى مخاضاً عسيراً في رحم العبودية والخوف، وجمعوا كل مرتزقة العالم حولهم ومنحوهم حقاً مشرعناً بالقتل لكل من خالف عقيدتهم فكانوا شياطين من الإنس عاثوا فساداً في جسد ذاك الوطن المكلوم…
ورغم ذلك ما قتلوا فينا حبَّ الحياة الكريمة، ولا روح الأمل والنصر، ما قتلوا الإرادة والإصرار، فيكفينا نصراً أننا اخرجنا ذاك الخوف من صدورنا وحطمناه على أنوفهم ، فنحن انتصرنا منذ اللحظات الأولى وثبتنا على الحق رغم قلة سالكيه ولم نجزع من كثرة الظالمين حينئذٍ.
قدمنا الشهداء قوافل وما نزال، ولنا بذلك إحدى الحسنيين، فإما نصراً يشفي الصدور، وإما شهادةً تنير القبور….
وليذهب كل العالم إلى الجحيم، فنحن معنا ربّ السماء، وسنعود حاملين للياسمين بياضه وإن كنَّا خرجنا بليلةٍ مظلمةٍ، سنعود بوضح النهار والشمس تنير طريقنا….
تمتمت بكل آيات الصبر حتى أنسى أننا نبتعد شيئاً فشيئاً عن تلك المدينة المغتالة.
ومضت ليلة كاملة داخل الحافلة وصور الطرقات تتسارع بالهروب من أمامي كأنَّها لا تريد أن نتعلق بها أكثر …
وحتى اليوم كلُّ الأيام تبدو كليل سرمدي متواصل ينتظر إشراقة الشمس عليه ليعود له النور الذي سلب منا ونعود إلى ما قبل تلك الليلة الطويلة…
لا شيء يقف بوجه الأيام، فهي تتوالى مسرعة، وتمضى تسعة أشهر منذ خرجنا بحافلات البؤس لتحملنا مسلوخي الروح والهوية إلى أرض المنفى في إدلب…
هنا كل شيء منهك من القصف، وبادٍ عليه غبار الحرب المشؤمة، فلم تسلم المدارس ولا الجوامع ولا الطرقات الصماء من لعنة الحرب… بل كل ما تراه عيناك يشعرك بمصيبة وطن… بريح صرصر جالت البلاد ولم يسلم منها إلا ما شاء الله…
إدلب الخضراء تأبى هذه المدينة الصابرة إلا وتبقى نضرة خضرة بزيتونها المبارك وترابها المشبع بدماء طاهرة… احتوتنا ولملمت شعث غبارنا وربتت على أكتافنا…
تختلط المشاعر عليك وتمتزج بروحك المنهكة، لا تعرف أتفرح أنك نجوت بأطفالك الصغار وخلصتهم من أصوات الرصاص التي خرشت آذانهم، أم تبكي أنك تركت روحك تسحق ونجوت ببدنك؟ فإن ماتت الروح فماذا يبقى من الحياة؟!
والوطن أمٌ وحياة، وعندما تموت أمك لن تغنيك كل نساء الدنيا عن حضنها، وكذلك عندما تهجر من بلدك وكل بقاع الدنيا لن تغنيك عن أرضك وطنك…
شيء واحد يستوقفك، ماذا لي أنا هنا…؟
فأنا لست من هنا وقد نفيت واستوطن الأغراب في بلدي!!
تتساوى في قلبك كل الأماكن ولا تجد لمكان دون الاخر عبقاً يشدك إليه، فأنت وليد اللحظة، جديد كل الجد في هذه الأماكن، وعيناك ترسم للمرة الأولى ملامح طرقاتك وخطواتك…
هي خطة خبيثة وملعونة هذا التهجير الذي يحدث…
هذا الانسلاخ الروحي الذي يجري على مرأى العالم دون أن يحرك ساكناً…