هذه الأيام الرمضانية التي نعيشها تمضي بسرعة، فالشهر الكريم ما إن يحتضن أهلَه ويرسمُ على جبينهم قبلة النور حتَّى يغادرهم ضيفاً خفيف الظلِّ كريم اليد.
إن أيام الصيام تلك فريدة من نوعها، لأنَّها تعمل على قلب حياة الإنسان رأساً على عقب في حال عمِل على استغلالها، فهذه الطاعة كغيرها من الطاعات ليست جوفاء، إذ فيها من عوامل التغيير الإنساني الشيء الكثير، فالإنسان بالتغيير يكون عبداً لله تعالى مثالياً، حينما يغيُّر للأفضل، وهو دوماً في قابلية لذلك التغيير إذ جُبِلَ على النقص، وليس كغيره من المخلوقات في كون مثاليَّته كائنةٌ في الثبات على الحالة، فالأمثل إذاً من بني الإنسان يغير باستمرار نفسه للأفضل بعيداً عن ماهية قفزة التغيير؛ فليست ماهيتها موضوعنا اليوم.
تغيير النفس لا يأتي عن جهل، فالإنسان لا يستطيع إصدار قرار بحق شيء ما لم يفهمه بشكل عميق، وإلا فسيكون أي قرار من ذلك القبيل قرارًا سريع البطلان خاوي الفاعلية. ومن هذا الباب فإن على الإنسان إذا أراد تغيير نفسه أن يفهمها أولاً، لكن للأسف هذا الشيء في الحالة الطبيعية لا يحصل.
فهمُ النفس البشرية يحتاج إلى نظرة عميقة وليست سطحية، نظرة تلج إلى قعر الروح لكي تكشف الغطاء عن تلك الآهات المتوارية في الداخل التي بدخانها المتصاعد تدفع الإنسان إلى الأخطاء. غيرَ أن العين التي تجود بتلك النظرة تُفقَّأ عند البعض باستمرار من خلال الجسد.
الاشتغال بحواس الجسد وملذاته يمنع الإنسان من تكبير دائرة وعيه، ويبقيه على السطح دوما دون اللآلئ.
هنا يأتي الشهر الفضيل لكي يحدَّ من نفوذ تلك العوائق ويدفع الإنسان نحو طريق العلوّ دفعة محب نافذ البصيرة. وهذا ما يتجلَّى في ساعات الصوت، حيث لا يسع الجسد إلَّا أن يصغي لنطق الروح في حال نطقت، وبالتالي الإنسان وقتها يستطيع فهم مشاكله ورصد أخطائه بشكل بارز، وعندها يستطيع أن يشد الرحال في رحلة تغيير الذات نحو الأفضل.
البعض لا يعجبه منطقُ تلك الروح، ولا يُسَّر بفصاحة معلوماتها فلا يتيح لها الفرصة للكلام ولا يجلس مع نفسه لحظات تأمُّل وسكون بل ينام أو يقطع الوقت في أشياء فارغة.
هذه الأيام لا تفرض نفسها على أحد، وليست بذات حاجة تسألُها الناسَ، بل كعبها عالي الكعب، ويدها الطولى لم تكن عن ضعف بل عن قوة، وبالتالي فالإنسان الذي يتفاعل معها بشكل بارد كأنه مجبور لا يتوقَّع منها أن تعطيه علامة جيدة.
فحذارِ أيها الإنسان ألا تقدِّر ما في يدك، لأن بعض الأشياء إذا خسرتها فإنها لا تعود إليك بسهولة.