الدول متقهقرة القوى أو التي لا تستطيع أن تكتفي لحاجياتها مما تنتجه بنفسها لا تستطيع أن تتخلص من شباك التبعيَّة، وذلك يعني أنها ستظل دوماً في مرحلة متأخرة، فالمتبوع لن يطلق في طبيعة الحال المجال للتابع لكي ينافسه في القيادة، وعند ذلك ستعيش هذه الدول التي رُسِّمت لها حدودها الحياتيَّة من قبل الآخرين حالة من الموت الحياتي الذي سيتسم بالاتباع لا بالابتداع.
في السابق كان الاتباع ينحصر في أغلب حالاته على المظاهر الخارجيَّة للدول من تحالفات أو وصايات لأجل الحماية، في حين تعيش التقاليد والثقافات الذاتية حالة من الهدنة والسلام، وذلك يعني محافظة تلك الدول على استقلاليتها الداخلية الاجتماعية.
في أيامنا هذه انتقل الاتباع إلى الداخل وتغلغل إلى أعمق مكان استطاع الوصول إليه في اجتماعية الناس، حتى صارت الاهتمامات واحدة وطريقة التفكير حول حدث ما متقاربة، والأخذ بالأشياء ليس متعلقاً بماهيتها أو معناها وإنما بمن يفعلها، وهكذا؛ حتى باتت الذاتية تتناقص عند المجتمع من جيلٍ إلى جيل.
منشأ تلك القواعد في الحياة للدول العظمى، والضعفاء سوف يتلقونها ولن يسعهم إلا الركون إليها، لأن سوق الاقتصاد الذي يتلاعب به الأقوياء قد تعلق بها، والحياة بالنسبة إلى الناس لا يمكن أن تعاش في وقتنا دون رصيد مادي محدد، خاصَّة وأن مواضيع التبعيَّة المسماة (موضة)، التي باتت متعلقة بكل حاجيات الحياة من لباس ومأوى ووسائل أخرى صارت مقياس شائع للتفاضل بين الناس، وخاصةً بين الطبقة المثقفة منهم.
هذه الحال عقَّدت من واقع التغيير الذي هو من طبيعة حياة الأمم وصعَّبته كثيراً، وخاصة ذلك المتعلق بقناعات الناس وأفكارهم حول طبيعة الحياة، واختلف آراء الإصلاحيين حول النقطة، رغم أن الجميع بات يفكر الآن أن الاعتدال هو الحل والمخرج، إلا أن ذلك لم يكن ليعني أن مفهوم الاعتدال في التعامل مع العولمة الاجتماعية كانَ واضحاً بالنسبة إلى طالبي الإصلاح، لأن كل من فصيل من دعاة الإصلاح المجتمعي كان يغني على ليلاه.
في الحقيقة، هناك منطلقات يسلم بها الجميع في التعامل مع مظاهر العولمة الاجتماعية، ولقد بتنا نحفظها عن ظهر قلب، مثلَ المنطلق الأشهر ” لنأخذ من العولمة الأشياء الجيدة ونترك السيئة “، نحن نعرف ذلك ولذا فليس من داعٍ لتصديع رؤوسنا بمجرد تكرار مثل تلك الكلمات، نحن نريد التطبيق لا الأقوال. وفي التطبيق يكمن الاعتدال الحقيقي المنشود.
إن أصحاب القرار الشرفاء قادرون على تحقيق الفائدة للناس والترقي باستقلالهم الذاتي حتى ومن دون تحجر في مسألة التعامل مع بعض المظاهر الوافدة، فهم قادرون على تسيير اهتمامات الناس التي طرحتها العولمة لمصلحة القضية الذاتية، وبالتالي الترقي بالمستوى الداخلي للناس دون العبث بالمستوى الخارجي، حتى تحقق الدولة لنفسها اقتراباً من الاستقلال شيئاً فشيئاً.
فمثلاً، لقد باتت الرياضة في السنوات الأخيرة عصب في جسد أي مجتمع، وصرتَ لا ترى الجالسين يتسامرون إلا وللرياضة حيِّزٌ من أحاديثهم، ولقد أصبح سوق الاقتصاد الرياضي من أقوى الأسواق الاقتصاديَّة.
عندما نعرف ذلك فنحن لا نستطيع التهرب من تلك المعلومة بهذه البساطة ونظن أن الإصلاح المجتمعي عني تنفير الناس من الرياضة، فنكون بسذاجتنا هذه قد نفرنا الناس عن الإصلاح ذاته لا عن شيء آخر.
وفي المقابل لا يتأتى أن نتعامل معها كأخذِ كسول لها دون محاولة لبث روحنا فيها، ونفض أي مسؤوليَّة لنا على الإبداع في التعامل مع الواردات الاجتماعيَّة.
يجب أن نُطَعِّم تلك الرياضة بروح نهوضنا، ونحفظ من خلالها للناس اهتمامهم بقضيَّتهم الذاتيَّة، وذلك ليس بشيء صعب على الشرفاء.
فمثلاً حينما نصدِّر لعشَّاق الرياضة رموزاً رياضيَّة ذات وزن خُلُقي وتؤمن بقضيَّتها فذلك سيجعل من الرياضة ناطق باسم قضيتنا، وستتحوَّل العولمة وقتها من أداة علينا إلى أداة تعمل لنا.
حين نعمل على بث النماذج الملهمة في جميع أنماط الحياة الواردة من الدول العظمى فذلك سيساعدنا على إعادة الثقة بذواتنا ولئم جراحنا الداخليَّة التي أذاقها بُعْدُنا عن اعتقاداتنا وثقافتنا أشنع الأوجاع، وسنتمكَّن إذ ذاك من إيصال رسالة حريَّتنا إلى أنفسنا أولَّاً ثمَّ إلى العالم أجمع، علَّنا نبدأ مع الوقت نستطيع التنفُّسَ على الصعيد الخارجيّ.