رفاه العياش
يحدثُ أن تُصابَ أقلامنا بالعجز حين تكون أطفالُ الحرب مادَّتها، وننسى رشاقتها حين نعترف لأوطاننا بالحب أو بالشوق، فنجدها أمامهم گعجوزٍ تسعينيةٍ تتعكّز الحروف، لأن الوجعَ في عينيهم أكبر من قدرةِ اللغة على اختصاره أو تصويره ..
أستذكرُ قول دوستويفسكي حين تساءل بسذاجةٍ وحُب: “يا إلهي لماذا يموت الأطفال ..؟ لماذا يا الله لا ترفعهم إلى السماء ريثما تنتهي الحرب ثم تعيدهم إلى بيوتهم آمنين ..! وحين يسألهم الأهل محتارين (أين كنتم) ، يقولون مرحين :كنا نلعب مع الغيوم .. !”
أتفكّر في سؤاله دوماً لكني لا أجرؤ على توجيهه إلى الله فأمره كله لحكمةٍ ما، ولكن أوجهه للكبار فنييّ الحرب وتقنييّ القتل، لمَ لمْ يضعوا الأطفال خارج لعبتهم ..؟!
فبمنطق الموت الذي لا يعرف المنطق، إن دفع ثمن الحروب المسنّين فهم قد عاشوا حياتهم طولاً وعرضاً، والشباب قد كُتِبَ عليهم أن يكونوا جيل الحرب، فإما أن يستشهدوا لأجل أوطانهم أو أن ينهضوا بها ..
ليس ذنبهم أن تزامن ربيع أعمارهم مع خريف بلادهم وحين بدؤوا ببناء مستقبلهم انهار الوطن، فكان الأولى أن يدوسوا على حطام أحلامهم ليبنوا وطنهم .. لأنهم أدركوا تماماً كم تُشقينا الأحلام خارج الأوطان، كيف تضيع فرحة كلّ حلمٍ نحققه في حزن الأسى على أوطاننا، فاختاروا انتشال جثة الوطن وبنائه من جديد على جُثث أحلامهم ..
أمّا الأطفال فهم خارج المعادلات السابقة كلها، هم أصغر منها بكثير وأرقّ من أن يكونوا إشارة ضرب فيها وأضعف من تحمل نتائجها ..
أمام عِتاب نظراتهم تسقط أقلامي مغشيَّاً عليها
لا أستهين بجرح الكبار، لكني لا أستطيع التحديق في عيون طفلٍ استفاق غارقاً بدمه ووجد نصف جسده تحت الركام ، وآخر استيقظ يستجدي ذرَّةَ هواءٍ يستنشقها ليحيا ولم يجد.
كيف تستطيع البشر أن تحجز الهواء عن قلبٍ صغيرٍ، ورئةٍ لتوِّها اكتملت، لأطفالٍ ما اكتملت صورة الحياة في أعينهم بعد، أجدر بهم أن يلعبوا مع الفراشات فرحاً ويطيروا مع العصافير مرحاً ..
كيف واروا إنسانيتهم الثرى حين قتلوا الملائكة الصغار وحرموهم حق الحياة، ألا يليق بهم اللعب بالياسمين أكثر من الانتفاض اختناقاً بالسارين؟؟
أليس أجمل أن نراهم يصنعون أطواقاً وتيجاناً من الياسمين والفرح من فرحه بهم يطرب على إيقاع ضحكاتهم، من أن نراهم يصارعون الموت اختناقاً بالسارين وكأنهم اعتقلوا لهم الأكسجين بتهمة التحريض على الحياة فيطرب الموت على إيقاع شهقاتهم وتموت معهم قلوبنا المكبَّلة أجمعين.
لِمَ كلّ هذا .. ألم يشبع الموت من النهش بأجسادكم الغضّة ..!
ألم يسمع صُراخ أمهاتكم ! ألم يرَ دموع آبائكم !
ليت قلبي يتّسع ليضمّكم جميعاً، فأخبِّئكم فيه وأهرب بكم بعيداً ريثما تنتهي الحرب، ونعرف من هو الخاسر الأكبر، ففي الحرب لا يوجد منتصر ومهزوم، الكل مهزوم وخاسر لكن هناك خاسرٌ أقل وخاسرٌ أكبر.
كم أشتهي أن أحتضنكم بيديَّ، أن أفعل لكم شيئاً سوى الكتابة عنكم .. عن جرحكم و موتكم، عن عجزنا وتخاذلنا، فأمامكم الحروف تشتهي الصراخ، .. تصطفُّ منتظرةً دورها في العويل والبكاء ..
آآهٍ كم يكسرني لون الحزن في عينيكم،
كم يُشقيني بردكم،
كم يُشرّدني صراخكم،
كم يقتلني موتكم !!!
فأكسر أقلامي .. وأتوب عن ذنبي في الكتابة لكم، وأصلي لأجلم لعلَّ صلاتي تنفعكم ..
وأشهدُ أن اللغة تمرضُ لأجلكم، تُصاب بوعكةٍ أبجدية فتموتُ بلا دماءٍ كما مِتُّم ..