رحمة خطاب |
مذهولاً مرتجفًا من خوفه، يكثر الالتفات كأنه يسمع خطى الجنود من حوله، محتضنًا ولده يتذكر الأيام التي قضاها متنقلاً من سجن إلى آخر، وبصوت مخنوق يروي لنا ماجد ٤٤ عامًا، قصصًا من داخل سجني (تدمر، وصيدنايا).
امتدت فترة اعتقال (ماجد) من تموز ٢٠١١ حتى نوفمبر ٢٠١٥، ليكون كغيره ممَّن كُتب لهم النجاة شاهدًا على أفظع الجرائم المرتكبة بحق المعتقلين السوريين.
يقول (ماجد): “لقد كان كابوسًا، كل يوم يمرُّ عليَّ أعتقد أنه سيكون الأخير، بعد جولة من الشبح والصعق بالكهرباء ، منعوا عني الطعام لأيام، ثم اقتادوني لغرفة التحقيق، وبدؤوا ركلي بأحذيتهم العسكرية، أشعلوا سجائرهم وأطفأوها في صدري، هنا بدأت بالصراخ قائلاً: إن أمي هي من أشعلت فتيل الثورة في سورية.”
للتعذيب في سورية تاريخ طويل، فبحسب منظمة العفو الدولية ( أمنستي )، فإن السلطات السورية استخدمت ٣٥ أسلوبًا مختلفًا من التعذيب، تعلمتها من مجرم الحرب النازي (ألويس برونر) عن طريق الاختباء في سورية.
وحتى يوم أمس لايزال ١٢٧ ألفًا و ٩١٦ شخصًا قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري، و ١٣ ألفًا و٩٨٣ شخصًا قُتلوا تحت التعذيب في أقبية السجون التابعة للسلطات السورية، منذ آذار ٢٠١١، حسب تقرير نشرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
ما بين عدم قدرة المجتمع على احتوائه، وماضي الاعتقال المزعج، يعاني (ماجد) من اضطرابات ومشاكل نفسية عميقة، فقد أخذت تصرفاته وسلوكياته منحًى غريبًا بعد خروجه من المعتقل، وبات يفضل الانزواء عن الناس في كل تفاصيل حياته، لدرجة أنه اختار زوجة بكماء وهو سعيد بهذا الاختيار، وعن هذا الأمر حدثنا قائلاً:
“الجميع يتهمني بالجنون، لا أعلم لماذا لا يقبلون بي زوجًا لبناتهم، بدأت أبحث عن فتاة بسيطة، ربما لا تكون جميلة، لكن ما يهمني أن أكون مقبولاً لدى عائلتها.”
يعيش (ماجد) مع زوجته الصماء (منى) ٣٨ عامًا في خيمتهم المنزوية عن باقي الخيام في مخيم (كفروما) للنازحين شمال إدلب، لتكون فصلاً جديدًا في حياته.
هل للقدر يدٌ في زواج (ماجد) من (منى)، أم أن كل منهما وجد في الآخر مكملاً له!
في هذا السياق، ذكر الطبيب النفسي (محمد عبد الفتاح) في مقال له نشر على موقع (الجزيرة): “ثمة حالة متزايدة من الإنكار ورفض الإقرار بالضعف والآثار السلبية والاضطرابات النفسية المترتبة على ما يحدث بعد الاعتقال، سواء على المعتقلين أنفسهم أو على زوجاتهم وأبنائهم وأسرهم.”
لم تغب البسمة عن وجه (ماجد) وزوجته طيلة فترة وجودنا في خيمتهم، وعند وداعنا حرص أن يرافقنا على طول الطريق الترابي المؤدي للمخيم، والسعادة ظاهرة عليه في حديثه وايماءاته الملفتة، كأنه يقول للجميع: أنا هنا، أنا موجود، أستقبل الزوار وأودعهم، حالي كحال أي شخص منكم لم تؤرقه عتمة الزنازين يومًا.