ماذا كان اسمها تلك التي تلبدت تجاعيد يديها من كثرة التعب والعمل، تلك التي لم تكترث يوماً لكلمات قاسية ونظرات حاقدة من المارة تعيبها وتعيب عملها؟ ماذا كان اسمها تلك التي استيقظت باكراً منذ بزوغ الفجر لتجهز ما تيسر لها من طعام لفلذة أكبادها وأخذت تنسج من دعاؤها ترانيم الصباح لأطفالها.
ثم بدأت بالنسق الروتيني لأعمال البيت المرهقة من تنظيف وترتيب، وأخذت تبعث في كل زاوية من زوايا البيت رائحتها العطرة، ثم خرجت لتبدأ عملها الصباحي في المزرعة علها تبيع بضعاً من ورقات خضرٍ وورد أحمر لأولئك المارة، ليأتيها ذاك العامل أو تلك الطالبة أو هذا الأستاذ ويبتاعها لأهله.
تلك التي لا أعرف اسمها، بل أسمائهم أيضاً، ليست هي وحدها، في هذا العالم القبيح، تجاعيد يديها، عيناها الذابلة ونابها الأيسر الأكثر صفرة من غيره، نعم لا يكاد طيفها يغيب عن ذهني، اشتريت بضع الورقات الخضراء والورد الأحمر الجميل بسعر قليل لا أذكره، ولم أكن أفكر أن يحتاج تلك المشقة العظيمة من يداها الطاهرتان، لم أفكر سوى بسؤال بسيط، لماذا تفعل كل هذا
أولئك الكادحات من الأمهات اللاتي لم ولن يكنَّ يوماً كأي أمهات أخريات، أجبرتهم قسوة العيش والتحمل إلى ما لا يكاد أن يطاق من التعب والكلل، لم أكن أرى منهن سوى الحب والابتسامة الجميلة المؤججة بالتعب المتهالك، منهن من تبيع الورد لتزين بهن رؤوس أولئك الفتيات الصغيرات لترى فيهن جمال تعبها وابتسامتهن البريئة ومنهن من تحيك بضعاً من قماش وتلك التي تبيع الخضروات والفاكهة التي أصابها الشقاء في التقاطها وتنظيفها.
فرؤية أولئك الباعة تنسيهن تعبهن بالكامل، لحين عودة تلك الكادحات إلى منزلهن واستقبال أبنائهن بقبلاتهنَّ المباركة ورضاهنّ الذي لا ينفذ، تبدأ رحلتهن في تجهيز ما تجدهنّ في بيوتهنّ المتواضعة، إلى أن يبدأ وقت استذكار الدروس وحل والواجبات، وتحضير أمور الغد، في الواقع الأليم لن تنتهي على الأغلب ساعات المعاناة التي لا أدري من أين بدأت.
تجعلهم يلعبون ويركضون ويحلمون بمستقبلهم العظيم، الذي قدسته تلك الأم لأبنائها؛ كي لا يصعب عليهم كما حال بها هي، لم تتفاني يوماً عن العطاء لهم في العمل والتربية اللذان كانا يسرقان من عمرها الكثير، لرعاية أطفــالها ولرؤية كل ما تستطيع عمله لهم جاهزاً.
ماذا كان اسمها تلك حين كان أهم حلمُ لها منذ الصغر، هل أن تصبح طبيبة أو مهندسة؟ أم كانت تحلم بأكبر من هذا وذاك، هل كانت يوماً من الأيام أن تهيأ نفسها لمقدار المسؤولية هذه، أم أن قسوة الحياة أوجبت عليها التعاطي مع حجم المشقة هذه.
لم أغفل أيضاً عن أولئك الذين رغم زواجهم وتحمل مسؤولية أبنائهم، ورغم قسوة العمل، لم يتركوا أمهاتهم وتعبهم يذهب سدى إلى حيث شاء، على العكس تماماً، بعدما غُرست التربية الصالحة فيهم، وشعروا بحس المسؤولية، منحوها حقها في الراحة أيضاً، وغيرهم ألحقوها بالجامعات أو المدارس أو الى ما تحب، صنعوا منها إنسانة أخرى، حافظوا عليها، وأطاعوها وأحسنوا إليها، ليس منة أبداً وإنما لأنها أمهم التي سهرت وتعبت وتحملت من أجلهم.
أما غيرهم الكثير، نسو أصلا ماذا كان اسمها، وضعوها بدار للمسنين، أو حتى لم يسألوا عنها أبداً، تجاهلوها فقط لأنهم كبروا، واعتقدوا أنهم الآن لا يحتاجون تلك الأيادي الطاهرة، لم يعودوا مكترثين لها، أو مكترثين بكل ما مرت من صعوبة وألم ومتاعب لقمة عيش لهم، مقابل أن يكبروا ويصبحوا عاقلين راشدين، يواكبون الحياة بقسوتها وحلاوتها، لم يذروا يداها المتجعدة أو عيونها التي كساها الهم والألم، نسو استيقاظها على بكائهم، نسو تسعة أشهر كادت أن تكون تسعة سنين سُرقت من حياتها حتى قدموا على هذه الحياة التي أنستهم الآن حتى أمهاتهم.
تلك التي لا أعرف إلى الآن اسمها، لكنني أذكر تماماً مقدار الصبر في عينيها، وأشعر بكل خيط رفيع يغدو في طيفها لاستذكارها أبنائها، وعملها الصعب، تُرى أهي اليوم في دار المسنين أم تجلس بين أحفادها يلعبون ويضحكون؟ تُرى هل ما زالت ابتسامتها باقية على ما صنعت لفلذة أكبادها؟ أم أنها غدت ذكرى صعبة النسيان تحكيها لكل من يأتيها من خلف أسوار دار المسنين؟
المصدر: مدونات الجزيرة