علاء العلي |
منذ انطلاقة الثّورة السّورية، ما تزال دوّامة التحالفات تتشكّل كزوبعةٍ يلتف حولها من التف، ثم ما تلبث أن تتلاشى وينفضّ عنها من كان يدور في رحاها.
خريطة معقدة جدّاً جمعت فيها الأضداد، يلملم شملها بضع أهداف لتسجيل مواقف حيناً أو لإدارة صراع حيناً آخر، تتنافر في الرّؤى البعيدة وتتجاذب آنياً، لتضفي ضبابيّةً على المشهد السّوري المعقّد أصلاً بسبب تشعّب الأطراف بأهدافها وأدواتها الميدانيّة!
ولعل الحلف الثّلاثي (روسيا -تركيا -إيران) كان الأكثر اضطراباً في قوام التّحالفات والتشكيلات السّياسية الدّولية التي أفرزتها تطوّرات السّاحة عسكرياً وسياسياً، فتاريخ هذه الدّول يتّسم بحبّ الهيمنة واستنساخ تاريخها وتطبيقه على أرض سوريّة، تشعبات و تناقضات في طيّات الأجندة الباطنيّة التي يستحيل معها الالتقاء في المستقبل، ولعلّ الدّولة الأكثر قدرة على التّأثير كانت (روسيا) التي تعدل سدس مساحة الأرض، هذا الحجم الجغرافيّ جعل من حاكمها القيصر هو صاحب الصّولة والجولة في الملف السّوري بما يجمعه مع أقرانه.
ليست تركيا ولا إيران بالمنافسة النّديّة للرّوس في كل المجالات، غير أن إدارة الصّراع السّوريّ من غرفة سوتشي وآستانة أظهرت أن توافقات هامشيّة مرحليّة تتكسّر وتتضارب معها الأهداف كلما زادت حرارة الأحداث، فبالوقت الذي تحاول إسرائيل الدّفع بأمريكا وروسيا نحو إخراج إيران من سورية، تجد تركيا أنها مع تطور الأحداث أمام خيارات صعبة جدّاً من جانب نقض كل ما بُني في القمم السابقة من قبل الروس وتواطؤٍ إيرانيٍّ مكشوف.
الأمر الذي يترك قيصر روسيا هو المتحكّم الفعليّ بنظام دمشق، الذي وضع بقبضته كامل العسكر والقطع البرّية والجوّية ليدير حرباً قذرة جداً ضدّ السورييّن فيهجّر أهلها ويطاردهم بالحمم تحت تبرير الإرهاب الذي بات يوسم به كل من لا يعترف بهذا النّظام الفاشي وفقاً لمنطلقات القيصر النّظرية، التي باتت إسفيناً ومفجِّر خلاف حقيقي دُقَّ بين أقطاب هذا الحلف.
كل ذلك يدعونا للتّساؤل: ما الثّمن الذي يمكن أن يُدفَع للرّوس كي يتحولوا للحلول السلمية؟ وأيّ حدودٍ دنيا تتوافق مع تصوّراتهم لفرض الحلّ الشّامل؟!
يظهر جلياً أن المعسكرات الشّرقية لا تؤمن إلا بالنار والحديد عبر تاريخها، ولأنه كذلك اعتمده بوتن الحل الأمثل لمواجه القوات المعارضة لنظام أقَلّويّ يعتبر نسخةً منه، لكن عروضاً يمكن أن تثنيه عن المتابعة بهذا الشكل المرعب من إدارة وقمع الصّراع وإخماده.
تريد روسيا وبكل صراحةٍ أن تضمن أنها المتحكّم والمهيمن الأول والأخير في سوريّة، وعليه فعلى قوات المعارضة وتشكيلاتها السّياسية الإقرار بهذا الواقع والعمل ضمن فلك هذه الحقيقة، فلا يقبل من وجهة نظرهم استفزازات سياسيّة أو اصطفافات مناوئة يمكن أن تصبح مبعثَ قلقٍ وازدراء، بل و يطلب منهم الانصهار في توجهات النظام الخارجيّة من حيث السّيادة والأمن والتّغريد في سربها، بدون تعارضٍ أو اصطدام بل توافق رأيٍ يشكّل عامل ضغطٍ حاسم على مستوى طرح القضيّة السّورية يظهر توافقاتٍ بنسبة مٌرضيةٍ يُصدِّرها الروس في مؤسسات القرار الدّولية أنها متناغمةٌ بالشكل الذي يقبل الانصهار في بوتقة النّظام الحالي مع بضع رتوشٍ سياسيّة تُشعر المعارضة أنها بالفعل تمّ اعتبارها في تشكيل الحل النّهائي، لكنّ هذا غير ممكن عملياً كما يراه متابعون بحكم تعدّد أقطاب المعارضة واختراقها دولياً وإقليمياً، وعليه فإنه يصعب جداً توحيدها في بوتقةٍ واحدة.
احتواء المعارضة العسكريّة أحد الرؤى التي يمكن من خلالها أن تؤثر في مجريات الأحداث، فمن وجهة النظر الروسية تقبل روسيا بقوامٍ عسكري معارض يكون رديفاً وتشكيلاً يضاف لجيش ” النظام السوري “، تجمعهم أدبيّات المواطنة والحدود والمأسسة والقانون الداخلي العسكري المنصوص وفق الدستور الحالي، مع التزام كامل بنوده والعمل لتحقيق أهدافه في وحدة أراضي الجمهورية، بما معناه انصهارًا شاملاً بتشكيلٍ مستقل كأنموذج “العودة ” في محافظة درعا السّورية جنوب البلاد.
مصلحة بوتن العليا في هذه الخطوة توجيه هذه التشكيلات تجاه صدام ومناوشات للقوات الأمريكية التي تحتل سلّة سورية النفطية والغذائية وخلق فوضى يرشح عنها انسحاب للقوات الأمريكية وميليشيا قوات سورية الديمقراطية التي يراها بوتن لصاً محمياً من نظيره الأمريكي والتحالف الدولي، يقبل بوتن وبكل حماس هذه الخطوة التي يجد فيها تحقيق عدة أهداف ليس أقلها أهمية السيطرة القطبية الأحادية على مقدرات البلد.
لا يبدو أيضاً أنّ هذه الفكرة واقعيّة كون أنّ المعارضة العسكريّة كما السياسيّة لا تنظر بمصداقيّة لأطروحات بوتن وهي ترى الاعتقالات الأمنية في درعا وريف دمشق التي أعلن عناصرها تسوية أوضاعهم بحل كانت روسيا ضامنة له، أضف إلى ذلك فإن جزءًا كبيراً من عناصر المعارضة السورية العسكرية لا تؤمن بفكرة التحالف مع قاتل.
فجيش النظام يراه كثيرٌ من تشكيلاتها أنهم بقايا ميليشيات دمويّة مسلوبة القرار تنتهك حرمة الآدميين سرقت المنازل و عفشتها ونبشت القبور وشوهت الجثث بطريقة ستالينية مروعة، لا يمكنها الاصطفاف معها و تلويثُ سمعة حربها ضد هذه الميليشيات الطائفية على طول السنوات التّسعة، فلا يمكن التوحّد مع قاتِلك، هكذا ترى المعارضة لهذه الخطوة و تقرّر استحالتها.
لا يبقى لبوتن سوى البحث في الأطر السياسية والقبول بواقع سورية الجديد، يجعل بموجبه شرقاً سورياً تحت هيمنة ونفوذ الأمريكي، وهو خطّ أحمر لا طاقة لبوتن في مواجهته وخصوصاً أنه مبرر دولياً تحت عنوان مكافحة فلول تنظيمات راديكالية وُجدت روسيا تحت العنوان نفسه، وهنا تتوقف المزاودات بين الفيلة، وتلجم رقصاتها الردود والردود المضادة، لا يُبقى لروسيا حينها سوى استجرار (قسد) للعب دور مع نظام الأسد، لتحصيل مكسب ما واستخراجهم من حضن الأمريكي! لكنها خطوة مشبوهة ما زالت عفرين حاضرة في أذهان قسد كيف باعهم الروس في سوق النخاسة التركي.
فضلًا عن شمال سوري استوطنت فيه معظم تشكيلات الثورة السورية، وكانت تركيا عرّاب التوزيع الديمغرافي الذي تبذل فيه جهوداً لحفظ أمنها وإبعاد شبح الكرد والانفصال، واستبدالهم بقواتٍ صديقة بالتنسيق مع موسكو، لكن روسيا تراوغ في هذه الاتفاقات وتجبر تركيا على العودة لاتفاق أضنة بعمق محدد تعتبرها قد تجاوزته كثيراً في محافظة إدلب، التسخين العسكري الأخير من روسيا يهدف للضغط أكثر على استعادة أكبر مساحة من الجغرافيا لصالح نظام دمشق، لا يمكن لروسيا التنازل عن ذلك، وفي الوقت نفسه يمكنها التوقف عند حدود لا تؤذي اقتصاد النظام السوري أو حتى تصبح قوّة ضاغطة على تجمعات سكانية ضخمة كما في حلب أو الساحل، حينها سترخَى يد القيصر حالاً.
لا يبدو أنّ حلّاً سحريّاً في سورية متوفر حتى اللّحظة كما يقول المبعوث الأمميّ بيدرسون، ولا يمكن بموجب هذا الواقع التنبّؤ بمصير المنطقة، فلا السّياسيّون ولا العسكريّون متّحدون حتى يتم عقد الصّفقة معهم، فالجميع ينفّذ أجنداتٍ تبعدهم جميعاً عن الحلّ، ليبقى وحده المواطن السوريّ من يدفع ثمن هذه الاختلافات من دمه.