سيرين المصطفى |
” حين أمسكوا بي على الحاجز شعرتُ بصدمة كبيرة لا يمكن للكلمات وصفها، ربطوا قماشة على عيوني، ووضعوا (الكلبشات) حول معصمي، ورموني في السيارة العسكرية. في تلك اللحظة صرتُ أسأل نفسي وسط ضربات قلبي التي كلما مرت دقيقة من الزمن ازداد تسارعها، أنا اعتقلت؟ أنا صرت بين يديهم في غياهب السجون؟ معقول؟ ماذا سيفعل بي زوجي؟ بالتأكيد سوف يعدمني شنقًا حتى الموت. ثم انتقل بالي لينشغل بالناس ونظرتهم تجاهي، بما فيهم الأقارب والأباعد. عندئذ لم أفكر بما سيحصل من تحقيق أو تعذيب، بل كان تفكيري محصورًا بردة فعلهم” هكذا افتتحت الناجية من المعتقل (أم مصطفى) حديثها معنا خلال سردها قصة اعتقالها، وما خلفه من معاناة داخل وخارج القضبان.
(أم مصطفى) اسم مستعار لسيدة ذات 45 عامًا من ريف درعا، عاشت الاعتقال في سجون الأسد، وأصرت على نقل معاناتها مُخفيةً اسمها الحقيقي كيلا يُسبب ذلك الأذية لأولادها الذين لا يزالون في مناطق سيطرة النظام السوري.
اعتُقلت (أم مصطفى) من قِبل قوات النظام السوري في عام 2016، على الطريق أثناء سفرها باتجاه الشام، إذ قصدت تلك المدينة بهدف الذهاب إلى أحد المشافي للعلاج، ثم خرجت بعد أشهر، لتصطدم مع المجتمع، وتفقد أبسط حق من حقوقها، ألا وهو أن تعيش حياتها بشكل طبيعي.
وعن أسباب الاعتقال تقول الناجية لنا: “اعتقلوني لأن إخوتي متطوعين مع فصائل المعارضة. وفي أثنائها كان معي ذهبي ومبلغ من المال قدره 35 ألف ل.س، بالإضافة إلى الأدوية وبعض التحاليل، فضلاً عن علب السجائر التي طلبها زوجي، فظنوا أني أحضرتها للثوار (المسلحين على حد وصفهم)”.
ثم تسرد لتعطينا وصفًا مختصر للحياة في المعتقل: “أحداث المعتقل لا يمكن اختصارها بقصة أو حديث أو حتى فلم، مهما تحدث المعتقلون لن يستطيعوا أن يوصلوا ولو جزءًا بسيطًا منها. عمَّ أكلمكم؟ عن القذارة والقمل مع الصراصير؟ أم عن البرد والرطوبة؟ أم عن الدخول إلى الحمام الذي هو قصة بحد ذاتها تُشكل للمعتقل مشكلة كبيرة، إذ يجب عليك أن تنتظر حتى يحين دورك.
أما بالنسبة إلى الجوع، فهناك كثير منه في المعتقل، فالطعام بالكاد يسد الرمق، كان عبارة عن بطاطا شبه مسلوقة، وحساء عدس من دون عدس، وأحيانًا برغل أو أرز مع بحص”.
تتأوه (أم مصطفى) ثم تكمل:” مضت علينا أيام في السجن، أمسى فيها أكبر حلم لنا هو أن نتقوت على الأكل الذي يجلبوه لنا”.
بعدئذ تعطينا لمحة عن التحقيق:” كنا نلعب بالمفردات حفاظًا على حياتنا، فبدلاً من أن نقول ثورة، نقول أحداث أو مؤامرة أو أزمة، والثوار نسميهم مسلحين وإرهابيين، بالإضافة إلى متخلفين، أو متآمرين مع أجندة خارجية، كما كانوا يسألوننا عن كل شي، عن أقاربنا ومعارفنا وجيراننا ويقولون: (أنتو النسوان بتعرفوا كل شيء)، كنت أُجيبهم ولا أجرؤ على الكذب، بالأخص أنهم يعرفون كل شيء”.
بعد مرور 4 أشهر نلت حريتي من السجن فقط، إذ حينها كنت أعلم أن معاناتي لن تتوقف عند هذا الحد، بل هناك معركة حقيقية مع الناس وزوجي إضافة إلى أهله، لذلك في قلبي تمنيت أن أذهب إلى أهلي قبل زوجي، وبحكم الصدفة حصل ما تمنيت لأنني خرجت مع معتقلة قريبة على قرية أهلي في ريف دمشق. عندما وصلت استقبلوني أفضل استقبال، كما لم يزعجوني بأي كلمة، على خلاف زوجي تمامًا الذي بدل من أن يُكلف خاطره ويتصل ليطمئن على حالي بعد المعتقل، أرسل رسالة صوتية على جوال زوجي يقول فيها: (كيف بتطلع دون ما تطلع معها سناء، ما كان لازم تطلع) وكأن الأمر بيدي!، كم تمنيت لو أنه أرسل رسالة يقول فيها: “الحمد لله على السلامة أو الحمد لله الذي نجاكِ من بين أيديهم، أو على الأقل يشعرني بأنه افتقدني بعد الغياب، بيد أن أملي خاب.
بعد مرور سبع مررنا بوضع سيء لكثرة القصف الذي كانت تتعرض له المنطقة، حينها أرسل إلي عن طريق الفيس، شعرت بخوف كثير ممزوج مع التعجب، أجبته وعاتبته، وكل شيء كان محبوسًا في قلبي أفرغته، وكانت محادثتنا غير ودية.
فيما بعد حاولت معه لأقنعه بالخروج من درعا والقدوم إلى مناطقنا في المحرر، إلا أنه رفض أن يخرج بالباصات الخضر مع الناس المهجرين، وبذلك حُرمت من أولادي الأربعة، توسلت إليه، واتصلت بأناس من أجل إقناعه، إلا أن ذلك لم يجدِ نفعًا، والآن مضى ثلاث سنوات ولم أرَ أولادي الذين كلما تذكرتهم اشتعلت النار الحارقة في قلبي.
أما الناس، فكان موقفهم مشابه لموقف زوجي، لكن عبروا عنه بطريقة مختلفة، فالنبذ والاشمئزاز تجاهنا، نحن الناجيات، واضح في عيونهم كالشمس، ذاك الذي يقول (الله أعلم كم واحد اغتصبها بالسجن) والآخر يعتبر ما حصل معنا عارًا يلطخ اسم الناجية وعائلتها، يركزون فقط على تفصيل واحد داخل السجن ألا وهو الاعتداء الجسدي. لكن لماذا الشاب عندما يخرج يكرمونه ويحتفلون به، معتبرين ذلك فخرًا له ولعائلته بينما نحن ينبذونا؟!”.