جاد الغيث |
يحسدني صديقي المغترب في ألمانيا على حياتي في مناطق (الصراع المسلح) حسب تعبيره، إنه يرى أن وجود معاناة وأخطار وتحديات في الحياة يزيد من معناها ويعطي لليوم والساعة قيمة أكبر!!
صديقي يغبطني أنني أعيش حياة مليئة بالأحداث، صحيح أنها تبدو مريرة حينًا، ولكن حين ألتقي بأناس ممتلئين بالصمود والقيم وحب الحياة، أُدرك حينها سرورًا لا مثيل له.
ومن وجهة نظري أن صديقي محق لكنه يبالغ، لأنني أرى في الغربة والسفر وتعلم لغة جديدة والحياة مع ثقافة مختلفة غنى للوجدان والفكر، واتساعًا لطاقة الروح التي تكاد تختنق في ظل الخوف الدائم من قصف الطيران الحربي، ومظلة القلق على الأيام القادمة والأسئلة التي تراودنا دائمًا أين سنمضيها؟ وكيف ستكون؟ وأين …؟
نعم، لا شك أن المبدعين عمومًا، ومنهم الكتاب، يحتاجون لبيئات قلقة مليئة بالمعاناة لتفجر إبداعهم، كما أبدع (همنغواي) رواياته وهو يعمل مراسلاً حربيًّا،
كان يتحدى الخوف والموت، وبالقلم يصور أدق تفاصيل الألم والحرب.
(نتحرق لكي نتألق)، أؤمن بهذه المقولة بشدة، لكن البعض، وربما الكثير من الناس في زمن الحرب، يفقد قدرته على الصمود، الملايين من السوريين غادروا سورية بحثًا عن أمان أكثر وعمل أفضل، رحلوا وحملوا معهم مدنهم وذكرياتهم، وصار من اللازم أن يضاف إلى بطاقاتهم الشخصية في أي مدينة يسكنون، وأي مدينة تسكن فيهم.
الجميع ممَّن هاجر أو رحل بعيدًا لديه المزيد من القصص ليرويها، كثيرون هم من التقوا بالموت وجهًا لوجه ونجوا بأعجوبة، وكثيرون كتبوا معاناتهم وصوروا مسيرة عذابهم في البحر وعلى الحدود بين الدول، وفي مجمعات السكن الجماعي، وفي مخيمات اللجوء المكتظة بالشقاء والأمل، وبالاختلاف حول إنتاج مستقبل مشرق إلى حدٍّ ما رغم كل السدود والقيود.
أما نحن الذين ما زلنا نسكن في المدينة التي تسكن فينا، فإننا مانزال نصارع الأقدار ونسجل الأفكار، ننتصر حينًا ونغدو أقوى، ونضعف حينًا ولكن لا ننهزم، وكما تقول القاعدة الفقهية: (المشقة تجلب التيسير) فإن الأمل عندنا يولد من رحم الألم، ثم إن هناك شعورًا غريبًا لا نعرف مصدره، يمدنا بالقوة ويشد من عزمنا.
مات الآلاف حولنا ولم نمت، ومايزال لدينا الكثير من الأحلام نحلم بها، ماتزال شمسنا تشرق، وأرضنا تثمر أطيب الثمار، يصحو أطفالنا باكرًا للذهاب إلى المدرسة، إن عادوا سالمين فإننا نشكر الله ونسأله أن يكونوا يومًا ما في زمرة العلماء، وإن عادوا لنا شهداء، فإننا نسأله تعالى أن يكونوا في جنة علياء.
البعض سيرى كلامي مثاليًّا وقد يبدو صعبًا وربما من المستحيل التوفيق بين مثالية المبادئ والمشاعر، وبين واقع الحال بعد هذه السنوات العجاف، خاصة أن الغالبية العظمى من الناس حولنا قد استنزفوا روحيًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا.
ويبقى حديث العقل والبحث عن المصلحة سيد الموقف، وتبقى سورية أرضًا مباركة، تظللها عناية سماوية خاصة، شعبها يروي بطولاته بكبرياء، لا يقهر ولا يعود للوراء، كل السوريين في داخل سورية كالأشجار، إن ماتوا يموتون واقفين مثلها، وإن عاشوا أثمروا أفضل الثمار، هذا هو حال من رضي بالأقدار، واجتهد وشد العزم ومع الركب سار.
غدًا حين نكبر نروي لأحفادنا آلاف القصص وآلاف الأخبار، لكل يوم في حياتنا هنا سر وحكاية وعبرة، أما غيرنا فإن له سيرة طويلة، لكن حكايات المهاجرين مشغولة بالخيوط والألوان نفسها ومختلفة في التفاصيل ومتشابهة في النهايات وخاتمة المسار، كل من هاجر عمل طويلاً، وعاش آمنًا ثم هدَّه الحنين، وأصابه قهر الغربة، ثم مات بعينين مفتوحتين شوقًا للأحباب والديار.