علي سندة |
بادئ ذي بدء يسري الكلام على من يحمل همّ دينه في يومه ولا يؤدِّه حقه لأسباب سنذكرها، أمَّا من يجتهد في العبادة وينتهز الفرص طوال اليوم ويخلقها فهذا لا خوف عليه لأنه يدرك أولوياته بحق، وأما من يصلي يوم الجمعة ويمارس الدين كعادة أسبوعية فنسأل الله تعالى له الهداية وسائر المسلمين.
يحدث أن العمل والحياة يأخذاننا ويشداننا حتى نغوص فيهما ويستحوذا على عقلنا، حتى يصبحا جزءًا منا وعادةً يومية نمارسها، ويطغيان على كل شيء حتى العبادة، فكيف يحدث ذلك؟
لولا أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وعِماد الدين، وواجبة خمس مرات يوميًا، وتحولت إلى شبه عادة درج عليها المرء منذ صغره، لأجَّلها لمصلحة الدنيا ولا مبالغة في ذلك، إذ إن الإنسان يميل مع الحياة وهمومها، فيتولد في عقله الباطن أولويات يعمل عليها، وهذه الأولويات يرتبها بحسب مبدأ المحاسبة المباشرة الحسية، فتكبر شيئًا فشيئًا حتى تأخذ حيزًا كبيرًا من العقل فتتحكم به، فالعمل اليومي على سبيل المثال فيه محاسبة مباشرة من ربّ العمل إن لم ينجزه، أما قراءة القرآن مقابل العمل تُؤجَّل ولا محاسبة حسية تلحق المرء، لذلك تكون أولويتها عند الفراغ التام، بل ربما تقتصر على قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فقط قبل الصلاة، هذا إن دخل الجامع وحضر الخطبة ولم يأتِ عند إقامة الصلاة.
والدراسة تأخذ من الطالب كل وقته لدرجة أن الأهل أحيانًا يفرغون ابنهم لأجلها ويؤجلونه عن حفظ القرآن إن كان يحفظه والحجة كي يفلح في دراسته لأن سويعات يوميًا ربما تؤذي وقته!.. إلخ، وكل ذلك يأتي على حساب الدين؛ الذي صار ترتيبه الأخير في الأعمال اليومية، ويتقدمه أولويات كثيرة يجددها الشيطان دائمًا ويزينها للمرء، بل إن شعر أحدهم بوجود فراغ يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي بداعي (الترويح عن النفس والاستراحة)، فتراه يضيع الساعات فيها، ثم عندما يُشبع نفسه منها أو يصيبه الملل، يستشعر تقصيره حيال أولوية مادية فيمضي إليها متذكرًا أنه لمَّا يصلي العصر واقترب وقت المغرب فيصلي مسرعًا وذهنه متعلق بما سيفعله عقب الصلاة، وهكذا يمضي اليوم وتسير الحياة بالإنسان ويتقلب في غمراتها من أمر إلى آخر، ويبقى يقول سأبدأ بداية الأسبوع بقراءة القرآن، أو سأحافظ على السنن في الصلوات،.. دون أن يطبق شيئًا لانشغاله الدائم حسب ظنه وعقله الباطني.
إلا أن الحقيقة تتجلى بالعبودية لله سبحانه وتعالى، وعليها كان أساس الخلق، لقوله سبحانه وتعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” الذاريات(56)، وبناءً عليه تكون العبودية أولوية الأوليات بالنسبة إلى المرء، وكل شيء يأتي بعدها، بل إنها تدخل في كل تفاصيل الحياة، فلو استشعرها المرء ومشى فيها لكسب أجرَين (أجر الدينا والآخرة)، تمامًا كالذي يعمل في النجارة أو الخياطة أو أي مهنة، وينوي بعمله قضاء حاجة الناس وإعانتهم فيكسب أجر الآخرة، وفي الوقت نفسه يتقاضى أجره المادي، وكذا الطبيب، والمُدرِّس…إلخ.
إن فكرة استشعار الدين في كل عمل من خلال الفكرة السابقة، تجعله الأساس والبوصلة التي توجه الإنسان وتحركه، تذكره بالله دائمًا فيستشعر تقصيره في العبودية، وما أكثر انتهاز الفرص في خضم الحياة وتسارعها لتذكر الله، فراكب الباص يستطيع قراءة صفحة من القرآن بتدبر بدل تصفح الفيس بوك، والماشي في الطريق يستطيع الصلاة على النبي والاستغفار والتسبيح إلى أن يصل وجهته، بل إن المصلي لأوقاته الخمسة يستطيع أن يصليها باطمئنان وتفكر دون سرعة وإسقاط فرض، فالدين أولوية الأوليات ولا يتضارب مع شيء مهما كان، بل هو مُيسر لكل شيء يسير فيه المرء.