في الريف عموماً تتسع المسافات بين القرى والمدن الصغيرة التي يفصل بعضها عن بعض الأراضي الزراعية الواسعة، وتكاد تكون وسائل النقل العامة شبه معدومة خاصة بعد الغروب.
وهذا ما يجعل معظم الناس يعتمدون على الدراجات النارية والسيارات العابرة الخاصة التي تحملك مجانا من مكان لآخر ريثما تصل إلى مبتغاك وتسمى هذه الطريقة في التنقل بالتقطيع.
لا يهم الراكب الوسيلة ولا مع من يركب المهم أن يصل، كأنَّه يقول في سره: (الغاية تبرر الوسيلة)
لا مشكلة في هذا الأمر طالما أنَّ الموضوع لا يتجاوز عملية انتقال عابرة، لكن الأخطر والأصعب أن تعيش مفردات الحياة الراهنة بذات الأسلوب.
تقطيع اليوم إلى ساعات، والشهر إلى أيام، والسنة إلى شهور بلا مغزى ولا خطة ولا هدف، المهم أن يمرَّ الوقت بسلام دون طيران حربي في السماء، ودون قذائف تسقط على الأرض، دون خوف في الليل، ودون قلق في النهار.
هكذا أضحى أسلوب حياة ساكني المناطق المحررة في سورية من نازحين وسكان أصليين، وهنا يكمن مربط الفرس ومصدر المعاناة.
فالأيام تمرُّ دون معنى، دون شعور بالراحة أو الحب أو السرور، كأنَّ الناس هنا في رحلة قاسية كان من المفترض أن تستمر لساعات ليس أكثر، وإذ بها تطول لسبع سنوات وأكثر.
كل شيء مؤقت وعابر، المخيمات التي لا تصلح للعيش، والتعليم الذي اقتصر على كل ما هو أساسي وضروري، فخرج جيل من التلاميذ لا علم لهم سوى أنَّهم يقرأون ويكتبون، وحتى طلاب الجامعة يرمون شباكهم في نهر لا سمك فيه، فربما لا يتم الاعتراف بشهاداتهم الجامعية.
وأصحاب الاستثمارات الصغيرة قد يخسروا كل يملكون بقذيفة واحدة، وأما أصحاب الأموال فقد اختاروا بلاداً أخرى لاستثماراتهم.
ولا ينجو من هذه المعاناة اليومية الطبابة والصحة، فكثير من الأمراض ليس لها طبيب واحد مختص يعالجها، وفي حلب الشرقية أيام الحصار استشهد الطبيب الوحيد للأطفال في قصف روسي، وبترت ساق صديقي (أبو الجود) بسبب عدم وجود طبيب جراحة أوعية، وفقدت (تسنيم) ذات الأربعة عشر ربيعاً حياتها لعدم وجود (صمام قلب اصطناعي).
ودفنت أرجل وأيدي وعيون وآذان تحت التراب وبقي أصحابها على قيد الحياة، بسبب أولويات المشافي في الحفاظ على حياة المصابين في أيام القصف العنيف التي تدفع بسيل جارف من الجرحى والمصابين إلى مشفى بإمكانات محدودة فيغرق الفريق الطبي بالدماء وتموت بعض الأعضاء على لائحة الانتظار، فتبتر بعد ساعات أو أيام وتسبق أصحابها إلى التراب.
وحتى على النقاط الطبية في جبهات القتال فقد الكثير من الثوار أرواحهم لعدم وجود بعض المعدات الطبية الضرورية، أو لضعف في كفاءة الممرضين والمسعفين.
ولا ذنب لأحد في ذلك، فالكل يجود بما هو موجود.
وفي مسيرة التقطيع هذه صار الجاهل مفتياً، وصاحب الشهادة الابتدائية قاضياً، والجزار قائداً عسكرياً، وتنحى المثقفون وأصحاب الشهادات والخبرات وفضلوا الرحيل بعيداً إلا من رحم ربي، فقد سمعت عن جراح ماهر مازال يعمل بصمت وإخلاص وتواضع لا يبتغي سوى خدمة المرضى ورعاية حالهم بل هو يرأف بالكثير منهم فلا يأخذ أجراً على شهامته.
من حق كل إنسان أن يبحث عن حياة تناسبه وتنسجم مع أفكاره، ومن حق الجميع أن يرفض أسلوب (التقطيع) كمنهج حياة.
لكن ماذا يصنع من لا حيلة له ولا مال عنده ولا طاقة له على الرحيل؟ وليس لديه موجة يركبها فيغدو من أصحاب المناصب الثورية أو صاحب مبدأ لا يبيع آخرته بدنياه.
ويبدو أنَّ هؤلاء الأنقياء هم أصحاب مبدأ التقطيع.