أ. عبد الله عتر |
سنقوم بتوسيع منظور الرؤية لتشمل ما يراه الآخرون، كما أخبرتنا سورة الشورى في بداياتها، ننتبه قبل ذلك لبداية غاية في الأهمية تنقلنا إلى رؤية الكون بأكمله، بما فيه من أراض وسماوات وبحار وكائنات: ((لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)) (الشورى: 4).
ماذا تحقق هذه الرؤية؟
تشتمل الآية على مبدأين يؤسسان الأرضية المنطقية للشورى: الملكية الأصلية المطلقة لله ((لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ))، والسلطة الأصلية المطلقة لله ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))، فالله وحده هو المتصف بعلو السلطان وعظمة الشأن، والبشر متساوون في السلطة فيما بينهم، ليس لأحد سلطة أصلية على غيره، وليس لأحد ملكية أصلية يختص بها لأنه من عرق أو جنس معين. هذا ما شرحه كثير من المفسرون (كالطبري والرازي وابن عطية والنسفي).
رؤية كونية مبينة على المساواة
هذا البناء لهرمية الملكية والسلطة في القرآن سيترك أثره على الرؤية الكونية للعالم، فالأعراق متساوية ليس أحدها بأعظم من الآخر، ولا يملك أي منها سلطة على الآخر، العربي والتركي والكردي والأوربي والصيني والروسي والإفريقي، وهو الأمر الذي جاءت الأحاديث النبوية تفصله: (أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود..) (أحمد).
وكذلك الرجال والنساء متساوون في السلطة والعظمة، فليس للرجال سلطة أصلية أو فضل على النساء لأنهم رجال؛ فالله وحده من يملك “السلطة الأصلية” على الناس، ما يوجد بين الأزواج والزوجات إنما هو حقوق والتزامات، وليس تسلط مبني على أفضلية الذكورة.
من المساواة إلى الشورى
إذا كان جميع الناس متساوون في السلطة، كيف سندير الاختلاف إذًا؟ كيف ننشئ المجتمعات المنظمة التي تحتاج سلطةً وقيادةً؟ كيف سنبني عائلة توزع فيها الصلاحيات والالتزامات؟ يدفعنا هذا الفهم إلى البحث عن طريقة نبني فيها السلطة دون أن يستعلي علينا أحد بقهره ويدعي العظمة الذاتية له، الحل كامن في اسم السورة، إنه الشورى، حيث تمشي السورة بطريقة تصاعدية فتبيِّن العقائد الرئيسة في البدايات، وتنتهي ببيان منعكساتها على الحياة العملية للناس، هناك في آخر السورة سنجدها تتحدث بشكل صريح: ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)).
ما نراه من مظاهر السلطة بين الناس يجب أن يكون مؤسسًا على التشاور العمومي والحقوق الأصلية، وما نراه من مسؤوليات بين الرجال والنساء يجب أن يكون عبارة عن التزامات وحقوق وليس استعلاء متعلقًا بجنس الشخص.
نجد منعكس هذا فيما إذا اختلف الأب والأم على مسألة فطام الطفل: ((فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا))، فالتشاور يحضر في مسائل الأسرة بوصفه طريقة لإدارة الاختلاف، كما يحضر في مسألة الشأن والأمر العام: ((أَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ))، وقد جاء في سورة آل عمران في مجال التشاور في مسألة الحرب: ((وشاورهم في الأمر)).
قضية المساواة هذه تذكرنا بسورة الحجرات: ((يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))، فاختلاف الجنس (رجال ونساء) واختلاف العرق والمجتمع (الشعوب والقبائل) لا يبرر التسلط بل يحكمه التعارف، والتعارف يقتضي أن يعرف كل واحد حقوق الآخر ومصالحه وثقافته واحتياجاته، هذا التعارف عنصر مهم في عملية الشورى، حيث تصبح مبنية على أسس صلبة.
تواضع بروح القوة.
الإيمان بأن الملكية والسلطة لله فقط يثير في نفس الإنسان حالة التواضع، وهو أمر رئيسي لتحقيق قيمة التشاور، فالمتكبر لا يشاور الآخرين، لذلك أشارت السورة إلى هذه القيمة، التواضع لله والناس والحقيقة، وهو تواضع فعلي ذو منعكس على نمط العيش والمجتمع والسلطة، يؤخذ هذا من تفسير المفسرين والأحاديث النبوية، حيث يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- معبراً عن منعكسات التواضع في طريقة المشي: (مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ أَوْ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) (أحمد)، ويقول عن منعكسات التواضع في الجانب الاجتماعي والسياسي: (إِن اللَّه أَوحَى إِليَّ أَنْ تَواضَعُوا حتى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلى أَحدٍ، ولا يَبغِيَ أَحَدٌ على أَحَدٍ) (مسلم).
هذا التواضع نفسه يولد شعورًا بالقوة؛ لأنه مبني على عظمة الله وقدرته وملكيته التي تصغر بجوارها كل قوة، أما حين تكون مشاعر القوة مبنية على رؤية الشخص لعظمته وقدراته فإنها تنقلب إلى طغيان يسحق الآخرين، وقد تحدثت سورة الشورى في صفات المؤمنين الصادقين أنهم أقوياء في الدنيا: ((وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ))، المثير للدهشة أن هذه الآية جاءت مباشرة بعد آية الشورى: ((وأمرهم شورى بينهم))، وكأنها تهمس في آذاننا: المؤمن بقدرة الله يتواضع للشورى ويناهض البغي.