حازم العلي |
تُعدُّ ظاهرة التسول في أي مجتمع ظاهرة غير مرضية ولا حضارية بغض النظر عمَّا إذا كان التسول يمتهنه شخص ما أو كان عن حاجة ألجأت صاحبها اضطرارًا ليمد يده طالبًا مساعدة الناس على مفارق الطرق وأبواب المساجد.
ورغم انتشار هذه الظاهرة في كثير من البلدان بمختلف درجاتها الحضارية والاقتصادية إلا أنها تظهر أكثر في نموذج بلدان ثلاثة، الأول: البلد الذي تحدث فيها الثورات والحروب وطال أمدها حتى بلغ من قسوتها أن تفقر الناس لدرجة أنهم يتسولون قوت يومهم.
والثاني: في بلاد يحكمها طغمة فاسدة سارقة لخيرات هذا البلد وتحرم أهلها أبسط حقوقهم منها، ومع كثرة الضرائب المفروضة والواجبات المعاشية اللازمة لا يجد هذا المواطن سبيلاً أمامه غير التسول.
والثالث: في البلد الذي تنتشر فيه البطالة وتقل فرص العمل، وذلك لأسباب متعددة يضيق المجال عن ذكرها.
لكن كيف ببلد اجتمعت فيه أحوال البلاد الثلاثة؟! كيف سيكون حال الناس فيها؟! نعم إن ذلك البلد هو الواقع المعاش في المناطق المحررة، حيث يعرفه كل من فيها.
ثورة وحرب لأكثر من تسع سنوات أخذت من ثروات الناس وأموالهم الكثير، وعصابة الأسد ومن والاه كانت وماتزال تنهب خيرات هذه الأرض لحسابات أفرادها الشخصية، تاركين هذا الشعب يعاني أشد أنواع الفقر والحرمان.
هنا في المناطق المحررة بعد حملات التهجير القسري التي جمعت أكثر من ثلاثة ملايين إنسان في هذه البقعة الصغيرة فقدَ الكثير من الناس أعمالهم وانتشرت البطالة بشكل ملحوظ عند الشباب وأرباب الأسر على حد سواء، وإن وجدت بعض الأعمال فهي محدودة الأجر ولوقت محدود، ربما لا تزيد عن أسبوع.
وفوق كل ذلك غلاء شديد بالأسعار للسلع الضرورية المتجددة الحاجة لكل فرد، كالخبز الذي وصل سعره إلى 300 ليرة للربطة، والخضار والماء والغاز وغيرها..
وما يزيد الأمر حزنًا وألمًا أن الكثير من أرباب الأسر هنا هنَّ أرامل لديهنَّ أطفال أيتام يقمنَ برعايتهم ويتوجب عليهنّ أن يؤمن ما يلزمهم من الطعام والشراب والدواء واللباس، لكن في ظل هذه الأوضاع يعجز الرجال أولي القوة أن يسدوا احتياجات من يعولون، لكن الرجل ربما له حيله وأساليبه في تحصيل قوت يومه فقد يستدين وقد يبيع وقد يعمل عملاً شاقًا وقد يصل به الحال أن يسرق!
لكن المرأة المستضعفة المهجَّرة التي ربما لا تعرف أحدًا سوى جيرانها بالمخيم أو ببيت الإيجار، ماذا عساها أن تفعل إذا اشتدت حاجتها ونفد قوتها وعلا صراخ أولادها؟!
نعم، والأمر أشد من ذلك، فهي تعيش ذلك كل يوم لتجدد الحاجة وتزايدها يومًا بعد يوم، ممَّا يزيد الأمر صعوبة وهمًّا ممَّا يضطرها بعد أن تستنفذ صبرها أن تلجأ مرغمة لسؤال الناس في محالهم التجارية أو على أبواب المساجد بعد كل صلاة.
ومن يخبر الناس وأولي السعة عن حال هذه المرأة؟ فهي تقف حيية بعباءتها وخمارها تمد يدها ولسان حالها يقول: أنا أختكم ومنكم ولأجل الحرية وقفت هنا.
لا تخلو جمعة إلا وأرى عدة نساء يقفنَ أمام أبواب الجامع، بعد انتهاء الخطيب يسألنَ الناس لقمة يومهنَّ ومن يعلنَ، حتى بات هذا المنظر رغم قساوته اعتياديًا
غير مأبوه له حتى من المسؤولين في المجالس والحكومات والمؤتمنين على هذا الشعب.
قد ينازع الشك أي واحد يرى هؤلاء فيقول: وما أدراني بصدقهنَّ وحقيقة أمرهنَّ
وقد حدث لي ذلك، فقررت أن أسال عن واحدة ممن يقفنَ أمام باب المسجد يوم الجمعة، وبعد التحري تبين لي أنها امرأة مهجَّرة تسكن في قريتي نفسها ألجأتها الحاجة أن تتخمر وتقف أمام باب الجامع.
وكذلك سألت امرة أخرى معها ابن لها حكت لي عن حال تلك المرأة التي ساورتني الشكوك حولها، وقالي لي إنها أيضًا تذهب كل يوم إلى الجامع لتجمع ثمن الخبز وإيجار البيت، فبعد التقصي والتأكد صدَّقت تلك المرأة وكذبت ظنوننا.
الخلاصة: إن قومًا لا يأبهون بضعفائهم ولا ينتصرون لمظلوميهم فهم وطائرات النظام سواء، وليس التسول في كل صوره احتيال، فأحيانًا يكون أهون من أشياء أخرى خاصة بالنسبة إلى المرأة المحتاجة.