يقولُ أبو حامد الغزاليّ رحمهُ الله: ” إنَّما فسدتِ الرّعيّةُ بفسادِ الملوكِ وفسادُ الملوكِ بفسادِ العلماءِ “.
من هذا المنطلقِ لو رسمنا في المخيّلةِ هيكلاً يجسِّدُ ثلاثةَ أطرافٍ ، رأسهُ العلماءُ ، جسدهُ الملوكُ و أذرعهُ الرّعيّةُ ، طبقةُ العلماءِ دائماً تشملُ في هذا السياقِ القاضيَ ، المفتيَ ، الفقيهَ و الإمام ، أمّا طبقةُ الملوكِ مُختَزلةٌ بالحكّامِ و الوزراءِ ، مِمّا لا شكَّ فيهِ أنّ العلاقةَ بينَ الطّبقتينِ أعلاهُ علاقةٌ طرديّةٌ تعكسُ فسادَ الرأسِ على الجسدِ فتتّسعُ فجوةُ القيمِ الجائرةِ و الظالمةِ ما بينهما لتكونَ تجارةً تشاركيّةً ربحيةً ، الطبقةُ الثّالثة ( الرّعيّة ) هيَ المُمَارسُ عليها بالتّجارةِ القائمةِ على الجَّورِ و الظلمِ ، و لو أنّننا بحثنا في الطّرفِ الثالثِ لوجدناهُ ينشطرُ إلى قسمين ، شطرٌ محكومٌ بشكلٍ غيرَ مباشرٍ ( القطّاع الشعبي العام ) و شطرٌ محكومٌ بشكلٍ مباشرٍ ( دائرةُ الموظّفين ) .
في إسقاطٍ لهذهِ المسمّياتِ على الواقعِ السوريّ وبالتَّحدُّثِ عن الفسادِ والفشلِ بشكلٍ صريحٍ وبالضّرورةِ الملحّةِ للتّعرّضِ للثغرِ الأعظمِ الذي تؤكلُ الكتفُ منه، رأيتُ أن أستهدفَ الشّطرَ الثاني في طَرفِ الرّعيّةِ (دائرةُ الموظّفين).
معَ مرورِ سبعِ سنواتٍ على الثورةِ السورية بيدَ أنّ كافّةَ الأطرافِ المتنازعةِ في الدّاخلِ السّوريّ كالإسفنجِ إذا ما اخترقهُ الماءُ عبرَ من جهةٍ إلى جهةٍ ليبقى مُبلّلاً يستحيلُ تجفيفهُ ، على مدى اشتعالِ الثورةِ وحتّى اليوم تعدّدَ ظهورُ الأطرافِ المتنازعةِ و في كلٍّ منها تُوجدُ الهيكليّةُ ذاتُها ( العلماء ، الملوك ، الرّعيّة ) ، المتابعُ لواقعِ الثورةِ يعلمُ تمامَ العلمِ الفسادَ المتجذِّرَ بالرّأسِ و الجسدِ ، في حينِ أنّ الأذرُعَ يشوبها بعضُ الفسادِ بنسبةٍ تقلُّ شأناً ، و من البديهيّ أن يكونَ الإصلاحُ نابعاً من الشريحةِ التي لم تَتَآكلُ بشكلٍ كاملٍ بعد ، لذلكَ ليسَ بالضّرورةِ لكلِّ زمانٍ و مكانٍ أن يكونَ الإمامُ صالحاً لِتَصلُحَ الرّعيّةُ أو لِيُصلِحهَا ، إنّما يمكنُ أن تَصلُحَ الرّعيّةُ بظِلِّ فسادِ حاكمها و أن تَثورَ لتُغيّرَ الواقعَ كما كانَ الحالُ بدايةَ الثورةِ السوريةِ ، ولكن كيفَ للرّعيّةِ أن تَثُورَ لتُصلِحَ ؟
الشريحةُ التي أريدُ استهدافها هي (دائرةُ الموظّفين) كما بانَ سابقاً، و هم في الواقعِ السّوريّ ينطوونَ تحتَ مسمّى العناصر أو الجنود، الثائرون، المجاهدون ….، هذهِ الفئةُ تحديداً يقعُ عليها النّصيبُ الأكبرُ من تأزّمِ الواقعِ الحاليّ، رغمَ كثرةِ فسادِ الفئاتِ الأُخرى و أسبابِ الفشلِ و السقوطِ إلا أنَّ السّببَ الأهمَّ لتفشّي الفسادِ و للسقوطِ المستمرّ يأتي منَ الطّاعةِ العمياءِ التي يُمارسها الجنودُ لقاداتهم.
لا يخفى على أحدٍ مستوى التضليل الذي يُمارس بالمقابلِ من قبلِ القادةِ لأيّ طرفٍ كانَ على عناصرهم، ذلكَ الجنديّ الذي يكبرُ في فصيلهِ على السّمعِ والطّاعةِ فقط دونَ أن تُتركَ لهُ مساحةٌ للتّفكيرِ والسّؤالِ والاستبيانِ.
ها هم عناصر النّظام الأسديّ في مطلعِ الثورةِ كانوا يُساقونَ للجبهاتِ المشتعلةِ في المناطقِ الثائرةِ على أنّها جبهاتُ الجولانِ المحتلِّ وأن من خلفها العدوّ الصهيونيّ، عناصرُ تنظيمِ داعش الذين يرونَ في الفصائلِ الثوريّة الردّةَ والكفر، يقاتلونهمُ أشدَّ القتالِ وما ذلكَ إلّا من التضليلِ والحشوِ الفكريّ لذاكَ الشّاب الملتهب لنصرةِ دينهِ.
شابٌّ في العشرينياتِ يتبعُ لتنظيمِ داعش يوقفُ سيّارتهُ قربَ إحدى الجوامعِ في الشّمالِ المحرّر لينزلَ منها مذهولاً برؤية المسلمينَ منصرفينَ من الجامعِ مخاطباً أحدَ المارّةِ: أينَ أنا؟ و من أنتم؟ ، ليتبيّن لاحقاً أنّه مُرسلٌ من قادتهِ إلى تل أبيب الإسرائيلية ليفجّرَ نفسهُ ، هكذا تُمارسُ الألاعيبُ في التنظيماتِ على الجنودِ ..!!
بعضُ الفصائلِ الثّوريةِ تقومُ بتعبئةِ جنودها لتشويلِ عناصر من تنظيم داعش (كما تزعم قادتهم) في حين أنّ ذلك التشويش على عقولِ الجنودِ للتّأثيرِ باندفاعهم فقط، أحد عناصر تلكَ الفصائلِ يروي أنّهُ أُخذَ مع مجموعتهِ لتشويلِ عناصر من داعش ليتفاجأ عندَ مداهمتهِ لأحدِ المقرّات بأشخاصٍ يعرفهم حقَّ المعرفةِ يتبعونَ لفصيلٍ ثوريٍّ مثلهُ …!!
وعناصرُ الفصائلِ الإسلاميّةِ دائماً ما يقومونَ بتشويلِ غيرهم من الفصائلِ بأمرٍ من قاداتهم بأنّهم مخرّبين أو عملاء أو صحوات، وتكثرُ التهمُ الزّائفةُ حقيقةً، لكنّ الجنودَ تُنفِّذ …!
لا شكَّ أنّ الدراماتيكيّة التي يُمارسها علماءُ السّلاطينِ قد انكشفتِ وزالَ الغبُارُ عن مواقفهم الخلّبيّةِ، وأنّ السّلاطينَ هم تُبَّعٌ لا قُوّادٌ، لا يبرعونَ إلّا في الخداعِ والدّجلِ على أتباعهم وشعوبهم.
يقولُ ابن القيّم رحمهُ الله: ” إنّ فسادَ الحكّامِ أهونُ على المسلمينَ من فسادِ العلماءِ “، وذلكَ لاحتمالِ تقويمِ مسارِ الحاكمِ بفعلِ العالم ِ ولكن ماذا بفسادِ كليهما بل واشتراكهم بنقلِ الفسادِ لأتباعهم؟ أين الأتباعُ من ذلك؟
متلازمةُ الطّاعةِ العمياءِ هي الجديرةُ بالعلاجِ الفوريّ ، قاداتُ اليومِ ليسوا أنبياء للانجرارِ سوقاُ وراءَ أوامرهم و تحقيقِ رغباتهم بل إنّ السؤالَ و التبيانِ كانَ واجباً على أتباعِ الأنبياءِ ، و على الأنبياءِ حتّى ، ومن القرآن الكريم لنا عبرةٌ في سؤالِ موسى لربّهِ بأن يُرسلَ معهُ أخاهُ هارون ، و في طلبِ ابراهيمَ من ربّهِ حينَ قال : ( ولكن ليطمئنَّ قلبي ) ، ليعلِّمَ اللهُ الإنسانَ بأنّه مهما علا شأنُ الإمامِ فلتسأل و تستبين و أنّهُ لا حرجَ في السؤالِ و التّحقّقِ ، إن كانَ ذلكَ علماً يجبُ عدمُ إغفالهِ فكيفَ بمن أُرديَ قتيلاً للطّاعةِ العمياءِ ، تلكَ التي عبرت بالكثيرِ للانهزامِ النفسيّ و الاستسلامِ الأعمى لما يُبَتُّ و يُنهى .
إنّ هذه الشريحةَ من العاملينَ في واقعِ الثورةِ يقعُ عليها عاتقُ الثّورةِ، أملُ الشعوبِ يُبصرهم.. بالكفِّ عن تنفيذِ مخطّطاتٍ دمّرت أحلامَ الملايينِ، إفشالُ مؤامرات لا زالت تُحاكُ، و الوقوفُ من جديد لإحياءِ العقولِ الميتةِ، ليكونوا حاملي رسالةٍ وأمانةٍ بحقٍ لا آلاتٍ تُنفِّذُ ما يُملى عليها …!
إنّ جنودَ فرعونَ كانوا من المُهلكينَ معهُ ولا مفرَّ بالاستثناءِ أو الهروبِ من فعلِ القائدِ.
مزعجٌ هوَ ذلكَ المشهدُ الذي ترى فيهِ إنساناً ينبضُ قلبهُ مُغلقاً عقلهُ، لا يُعرّضُ نفسهُ للسّؤالِ أبداً: أين أنا الآن؟ أهيمُ منكبَّاً على وجهي أم متّزناً على صراطٍ مستقيم؟
المعادلةُ أقربُ ما تكونُ للبساطةِ إن فُهِمَت، وأقربُ ما تكونُ للتّعقيدِ إن أُبهِمَت، مكرُ الحاقدينَ يُنقلُ إلى واقعِ الثورةِ لإفشالها عن طريقِ الحكّامِ والقاداتِ إلى عناصرهم لتنفيذها بحذافيرها.
بالضفّةِ المقابلةِ أملُ الشعبِ وروحُ الثورةِ معاً موجودة في أولئكِ الجنود حاملي أمانة النّهضةِ والتحريرِ وإنّ معركتهم معركةُ فكرٍ وكلَّ فردٍ منهم مطالبٌ بالصّحوةِ من غفلتهِ وبالتعبئةِ، فلا يستثني منه سلاحٌ ولا يغفلُ فيهِ ثغرٌ ولا يشردُ عن جانبٍ..
وأن يبقى سؤالهم لأنفسهم على الدوامِ: هل نحنُ للحقِّ جنودُ؟!!