وضعت الثورة السورية المثقفون عامة على المحك على مدار 5 سنوات، واستدعتهم لتوضيح موقفهم منها والصبر على ما يترتب عليه من ضغوطات وانتقادات بل حتى التعرض للقتل والخطف والابتزاز.
طبيب، مهندس، موظف، معلم، طالب جامعي، جميعهم في بوتقة الاختيار الصعب، فمن قرر منهم البقاء في مناطق النظام حرصاً على استمرار راتبه الذي لأجله أضاعوا عمرهم بين ردهات المديريات وضجيج الأقلام بتعب كبير، لاقى النقد المباشر من محيطهم الداعم للثورة، وطالتهم أصابع الاتهام بأنَّهم من الدفاع الوطني (الشبيحة)، بالمقابل من منهم اختار طريق الثورة صبَّ النظام عليه جام غضبه بل حتى المحايد الذي يدعو للحل السياسي للوصول لبر الأمان ناله نصيب وافر من التضييق والتشهير.
“قانون الإرهاب” الجديد (المادة 19 من دستور عام 2012) الذي يخول الإدارات إبعاد أي موظف من دون حقوق أو تعويضات إذا فقط لمَّح عن رأيه وذكر الأزمة السورية بكلمات ولو على صفحته الفيس البوك الشخصية، هذه وسيلة من وسائل نظام الأسد التي يتبعها في عقاب المثقفين غير المناصرين له، فضلاً عن فصلهم من منصبهم بحال غيابهم لمدة لا تتجاوز الشهر ولا يمتلكون ورقة قائم على رأس العمل، ناهيك عن اعتقال المئات من المثقفين لأنَّهم خرجوا في مظاهرات مناهضة له، أو عن طريق تقرير مكتوب بهم من مخبري النظام.
من ناحية أخرى لجأ نظام الأسد إلى زج موظفي القطاع العام في صفوف قواته وذلك تحت شعار “معا في مواجهة الإرهاب”، وقد قدم حوافز مالية تصل إلى زيادة بنسبة 50 بالمائة للموظفين، بحيث يتم إجبار الموظفين العاملين في القطاع الحكومي التوقيع على عقد ارتباط مع الجيش السوري” لمدة ثلاثة أشهر ويستلم من بعدها الموظف سلاحاً فردياً ويبدأ مسيرته على الحواجز في مداخل المدن وشوارعها، ويتم بعد فترة إرسالها إلى الجبهات تحت ذريعة الحاجة له في العمليات العسكرية، ويتم تجديد العقد تلقائياً للموظف بعد انتهاء الثلاثة أشهر.
بينما كان لموظفي المناطق المحررة عامة نماذج أخرى من التعذيب ولاسيما محافظة إدلب خاصة لأنها خارجة عن سيطرة نظام الأسد بشكل كامل، وموظفوها الملتحقون بالقطاع التربوي النظامي مجبرين للسفر إلى حماة لاستلام رواتبهم، وهنا باتت سفرتهم تسمى برحلة الموت إثر الإهانات والشتم الذي يتلقونه من قبل عناصر نظام الأسد المتوزعين على الحواجز في مداخل مدينة حماة، إضافة لاعتقال الكثير منهم على أنهم غير قائمين على رأس عملهم أو أنهم خارج القطر أو لهم صلات مع الإرهابيين أو توقيفهم لساعات طويلة وسلب أموالهم للسماح لهم بالسير رجالاً كانوا أم نساء، إلى جانب توقيفهم بمناطق عسكرية فيها اشتباكات أدت لارتقاء العديد منهم.
وتحاول المديريات التعليمية والمؤسسات المدنية داخل المناطق المحررة توظيف وحماية أكبر عدد ممكن ممن فصلهم نظام الأسد الذين لديهم خبرات وكفاءات وتم رفض استقالتهم، وإن قبلها لم يعطهم حقهم.
إلا أنَّ السؤال المطروح دوماً من حناجر الشباب الجامعي الذي توقف عن إتمام مسيرته العلمية عنوة عقب وقوعه بين خيارين أحلاهما مر، إما حياتهم التي ممكن أن تغتالها يد عناصر نظام الأسد الغادرة بالاعتقال أو الإعدام الميداني، وإما مستقبلهم، فقد أفنوا سنين عمرهم للوصول إليه، وبلمح البصر حاصرته نيران الحرب، فتناثرت أمالهم حين اصطدموا بواقع لا يجدون فيه عملا، وطغت عليه البطالة ليقبلوا على أعمال بعيدة كل البعد عن أحلامهم المرسومة ولا يلزمها أي شهادة، كالأعمال الحرة من بيع خضار ونقل بضائع وغيرها، مقتنعين بالمثل الشعبي ( كار ليس كارنا قلل من مقدارنا) دليل على أنَّ بؤس الحياة دفعهم للعمل بأي شيء ليأمنوا لقمة عيشهم.
معتقلون، مهمشون، مظلَّمون، بالنهاية مثقفون في بلد لا يعير الأهمية للأرواح ولتراب الوطن كي يحافظ على أصحاب الشهادات العلمية طالما أن قبضته الأمنية ساهمت بتهجير الأدمغة لخارج سوريا سواء كان بالتهديد والقتل أم بالتشديد والحصار
محار الحسن