لم تكن ظاهرة تعدد الزوجات منتعشة من قبل كما هي اليوم؛ فما نتج من الحروب والصراعات القائمة في المنطقة من خسارة كبيرة في عدد الشباب الذين قضوا نحبهم في المعارك أو تحت القصف، خلف عدداً كبيراً من النساء الأرامل والأطفال اليتامى، الذين أصبحوا بلا معيلٍ أو سند.
هذا الوضع الاستثنائي الذي فرض نفسه على كثير من الأسر السورية المنكوبة جعل “الهيئات الشرعية” في المناطق المحررة تشجع على تعدد الزوجات، وطرحته كحل شرعي واجتماعي يضمن للنساء الأرامل فرصة ثانية في حياة جديدة، ويحدُّ من ظاهرة العنوسة التي مدَّت شباكها على كثير من الفتيات.
هذا ما أكدت عليه السيدة (زينب) عندما روت قصة زوجاها الثاني، بعدما وجدت نفسها أرملة وهي في العشرين من العمر ولديها طفلة صغيرة، قالت:
“بعد موت زوجي في إحدى المعارك بقيت وطفلتي عند أهلي، مع أنَّ وضعهم المادي سيء، وبعد فترة تقدم لي أحد المقاتلين طمعاً بالأجر حسب قوله ومن أجل ابنتي الصغيرة.
ترددت في البداية، لكن وضعي عند أهلي لمَ يكن بالأفضل، فقررت الزواج بدافع الستر وخلاصاً من ضنك العيش، بعدما أمن لي مسكناً وحياة كريمة.”
(زينب) إحدى النساء اللواتي طعنتهم الحرب من الداخل وأبقتهم على قيد الحياة فما كان أمامها سوى أن تصبح زوجة ثانية وتكمل حياتها في قالب أسري مكتمل يضمن لها ولابنتها سكناً ومأوى ونفقة بما تيسر وهي أبسط حقوق المرأة التي جعلتها الحرب أكثر الأشياء صعوبة!!
فلحكمة واضحة شرّع الله تعالى التعدد في الزوجات، لكنَّها قد تغيب عن الكثيرين، فربما لم تكن واضحة في أيام الرخاء والأمن، كما هي اليوم في الحروب والنزاعات، ففي هذه الحالة تختلف الموازين، وقد ترضى النساء في التعدد وقد كنّ من قبل يعارضنه بشده.
فهذه الحرب الهوجاء فرقت بين أواصر العائلة وشتت جمعها، فبين هجرةٍ ولجوء، ومناطق خاضعة للنظام وأخرى للمعارضة، وضعت الزوجين على طرفين متباعدين نتج عنها طلاق وانفصال وتفكك للأسرة. وسلك طرق جديدة قد يكون التعدد إحداها، ويوما بعد يوم أصبح أمرا مقبولا ومرغَوبا به بعد ما كان مستهجناً من قبل، بل كانت نسبة الزواج بزوجة ثانية قليلة جداً وفي حالات معينة، كعقم الزوجة، وعدم إنجابها، أو في حال مرضها وعدم قيامها بواجباتها الزوجية، حيث يلجأ الرجل للزواج مثنى وثلاث، حسب قدرته واستطاعته.
فالزواج المتعدد يقتضي مسكناً شرعيا منفصلا لكلا الزوجتين إن لم تزغب إحداهما في العيش مع الأخرى في منزل واحد، وإحلال العدل بينهما، والإنفاق حسب المقدرة ليطبق التعدد في شكله الصحيح.
لم يكن زواج (أبو محمد) من الثانية والثالثة بدافع الإنجاب أو رغبة في الزواج بحد ذاته، بقدر ما كان ردة فعل على موت زوجته الأولى وأَم أطفاله الثلاثة بقذيفة خبيثة أردتها قتيلة أمام عينيه.
قال وبصوته وفاء لذكراها: “بعد وفاتها تركت حسرة في قلبي وثلاثة أطفال صغار، كان لابدَّ من زوجة تقوم على رعايتهم، وشَرطي للزواج أن تكون المرأة أرملةً تحمل الألم نفسه، وأنا، والحمد لله، مقتدر وأستطيع أن أفتح بيتين وأقوم بواجبي تجاه زوجاتي بفضل الله، وقد تزوجت الثالثة بدافع الستر، وأنا على استعداد للزواج بالرابعة، وقد أفهمت زوجاتي هذا الأمر.”
أبو محمد كما أسلف لنا وجد بالتعدد حلاً مثالياً لتقليل نسبة الأرامل من النساء وخاصة اللواتي في مقتبل العمر، وهو يشجع الرجال ممَّن لديهم قدرة مادية وعقلية حكيمة وشخصية قوية على التعدد، فالمال وحده لا يصنع أسرة، بل يجب أن يكون العقل حاضرا بحكمته، وهذا أولى متطلبات التعدد لإحلال العدل الذي هو شرط التعدد.
فحين أباح الله تعدد الزوجات في نص صريحٍ وواضح، جعل له ضوابط وأحكام لتحقيق العدل والحكمة المتضمنة من هذا التشريع، حيث قال سبحانه:
(فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)
ولم تكن الأرامل الوحيدات اللواتي يقبلنَ بالتعدد ويرينه خلاصاً لهنَّ، بل الأمر سيان بالنسبة إلى الفتيات اللواتي تجاوزنَ سنَّ الزواج ودخلنَ مرحلة ” العنوسة”
فقلة الشبان وضيق الحال وهجرة عدد كبير من منهم إلى بلاد اللجوء زاد من ظاهرة العنوسة.
لذا فضَّلت بعض الفتيات الزواج برجل متزوج بدلاً من الانتظار على رصيف العنوسة.
تقول السيدة (أمل الشامي): “كلما تقدمت بالعمر أكثر قدمت تنازلات أكثر حتى رضيت بأن أكون الزوجة الثانية، وماكنت لأرضى بذلك قبل عدة سنوات.”
السيدة أمل في عقدها الثالث ركبت قطار الزواج، وجلست إلى جانب امرأة أخرى على كرسي واحد، وتشاركتا في زوج واحد وتخلصت من شبح العنوسة الذي طال الكثير من قريناتها.
قالت: “أنا سعيدة بزواجي طالما أسكن منفصلة عن زوجته الأولى، وزوجي يحاول ما استطاع العدل بيننا وتأمين حاجاتنا في زمن أصبحت المعيشة من أصعب الأمور خاصة في سورية”
بهذه النماذج المختلفة، تجَسّد لنا التعدد بحلةٍ جديدة لبستها الثورة السورية كما لبست أشياء كثيرة لم تكن بالحسبان، لكن لضرورة التكيف مع كلِّ الأحداث، وتماشياً مع الوقائع الطارئة كان لابدَّ من ذلك، حيث سطَّرت الحالة السورية نوعاً من الحكمة والرضى والتأقلم باختلاف الظروف والأحوال.