محمد سليمان دحلا |
لم يعد خافيًا أن روسيا ليست اللاعب الوحيد في الملف السوري رغم نفاذ إرادتها (من حيث الظاهر) فيما يتعلق بتحكمها بالمسارين السياسي والعسكري في سورية، فالدول الأخرى النافذة بشكل مباشر، وهي التي لها قوات وقواعد عسكرية على الأرض، أو غير مباشر، وهي الدول ذات النفوذ المالي، والممسكة بورقة إعادة الإعمار والمشاركة بشكل أو بآخر للأولى، جميع تلك الدول موافقة صراحة أو ضمنًا على الإستراتيجية الروسية للحل السياسي في سورية، وليست متواطئة وحسب، رغم تضارب المصالح الظاهر.
وقد أسفر الوضع الراهن في سورية عن تقسيم الجغرافيا السورية إلى ثلاثة أقاليم (مناطق نفوذ لدول أجنبية)
الأول: إقليم (سورية المفيدة) في الساحل والوسط والجنوب، وهو خاضع للحماية الروسية والوصاية الإيرانية، ومن الصعب تصور تقسيمه إلى منطقتي نفوذ واحدة روسية وأخرى إيرانية، نظرًا للحساسية الأمريكية الإسرائيلية الخليجية من إيران.
والثاني: في الشمال الشرقي، وهو منطقة الحماية الأمريكية التي تضم معظم مصادر الطاقة في سورية.
والثالث: هو الخاضع للوصاية التركية في الشمال.
وكلا من النظام الأسدي والمعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، خاضعين تمامًا لموجبات أستانة وسوتشي ودول الحماية والوصاية (الضامنة)
أما الشعب السوري سواء داخل تلك الأقاليم أو في مهاجره، فهو خارج المعادلة تمامًا، إلى الآن على الأقل، وكل شيء يجري خارج إرادته وعلى حساب دمائه ومستقبل أبنائه.
ويبدو بوضوح أن كل العمليات العسكرية بعد الأستانة إنما جرت لتحقيق هدفين،
الهدف الأول: ترسيم الحدود الإدارية للأقاليم الجديدة تمهيدًا للفدرلة (أقاليم الحكم الذاتي) والتي من المفترض تكريسها في الدستور الجديد كحل سياسي، مع خلق نوع من التجانس الديمغرافي داخل كل إقليم. ولعل المعارك الأخيرة في أرياف حماة واللاذقية تأتي في سياق ذلك الترسيم العملي لحدود الأقاليم، ويبقى ملف إدلب وشرق الفرات هو العقدة الأخيرة والعمل جار فيما بين تلك الدول على حلها مع الاشتراط على تركيا ترتيب الوضع الفصائلي في إدلب على طريقة درع الفرات وغصن الزيتون، والبديل ذهاب إدلب إلى الإقليم الأول. ومن الواضح أن تركيا هي الحلقة الأضعف أمام التفاهمات الأمريكية -الروسية ومواقفها عرضة للابتزاز الدائم من كلا الطرفين وليس العكس كما يتوهم البعض.
والهدف الثاني: كسر إرادة الشعب السوري وتهيئته نفسيًّا وجماعيًّا للقبول بأي حلٍّ، بل المطالبة به.
ولعل الخلاف المفتعل على تشكيلة اللجنة الدستورية هو من قبيل كسب الوقت لتحقيق الهدفين السابقين معًا.
فكلنا يعلم أن تلك اللجنة هي كسابقاتها من المنصات والأجسام السياسية تشكلت بمحاصصات دولية وليس من العسير على تلك الدول المتوافقة والمتفاهمة على كل ما سبق التوافق والتفاهم على ستة أسماء أو ستة مقاعد.
من خلال التحليل السابق لا يبدو أن روسيا في مأزق، ولكن الأمر ليس كذلك، بل هي في مأزق مزدوج.
فمن ناحية الموضوع الإيراني وحساسياته الإقليمية والدولية هو عقدة في منشار الحل الروسي فيما يتعلق بالفدرلة، خاصة بالنسبة إلى الإقليم الأول (سورية المفيدة)
ومن ناحية ثانية، المسار الدستوري لن يسير على أي حال وفق ما يشتهيه الروس والإيرانيون؟ ولإيضاح الأمر لا بد من الإجابة على سؤالين:
الأول: هل من الممكن أن يكون المسار الدستوري مفتاحًا للحل السياسي للوضع في سورية؟
والثاني: كيف تكون روسيا في مأزق وهي من أرادت وضع العربة أمام الحصان من خلال تقزيم الحل السياسي وحصره بالقرار٢٢٥٤ والقفز عن بيان جينيف ١ /٢٠١٢ من خلال الأستانة وسوتشي ومن ثم تقزيم القرار ٢٢٥٤ نفسه وحصره بالمسار الدستوري (سلة الدستور)؟؟
بصرف النظر عن تركيبة اللجنة الدستورية وآلية تشكيلها التي لا ترقى إلى مسمى جمعية تأسيسية لوضع دستور بحال من الأحوال، وذلك لكونها مشكلة وفقًا لإرادات دول وأطراف متصارعة بعيدًا عن إرادة أطراف العقد الاجتماعي الحقيقيين وهم الشعب.
إلا أنه من الممكن من حيث المبدأ أن يكون المسار الدستوري مدخلاً للحل السياسي الشامل المفضي لانتقال سياسي يُصبح معه تطبيق باقي فقرات القرار ٢٢٥٤ من قبيل تحصيل الحاصل، بشرط سلوك مسار إجرائي دستوري صحيح، وهذا الأمر تعلمه الدول التي تساوقت مع الطرح الروسي.
إذ تشير السوابق الدولية للدول التي شهدت نزاعات مسلحة (وهو التوصيف الدولي للوضع السوري بكل أسف) إلى أن المسار الدستوري كطريقة لبناء السلام وإعادة الإعمار والتنمية المستدامة لم يبدأ بوضع دستور دائم، وإنما وثيقة دستورية مؤقتة وذلك لسببين:
الأول: أن الدستور الدائم حتى ينتج سلامًا أهليًّا يفترض مشاركة المجتمع بنقاشات مضامين الدستور وبناء توافقات مجتمعية حولها، وهو ما يتطلب ظروفًا من الاستقرار والبيئة الآمنة، وذلك لا ينطبق على الحالة السورية.
والثاني: أن القضايا تُؤثر مباشرة على إنهاء النزاع والوصول إلى مصالحة شاملة كالعدالة الانتقالية والمعتقلين والعودة الآمنة للمهجرين، وتعويض المتضررين، ورد الملكيات … مثل هذه القضايا ليس مكانها الدستور الدائم، إنما وثيقة مبادئ دستورية مؤقتة.
لذلك لجأت تلك الدول لأسلوب الوثيقة الدستورية المؤقتة أو إعلان المبادئ الدستوري، وتلك الوثيقة المؤقتة يفترض تطبيقها في مرحلة انتقالية تمتد من سنتين إلى أربع سنوات، تُديرها سلطة انتقالية بموجب بنود تلك الوثيقة التي تتضمن أيضًا حلولاً لتلك القضايا التي تعتبر من آثار النزاع.
من هذه الناحية روسيا في مأزق؛ لأنها تعود إلى المربع الأول، الذي اخترعت مسار الأستانة ابتداءً للهروب منه، وهو استحقاق المرحلة الانتقالية والانتقال السياسي.
ومن ناحية أخرى هي في مأزق حين تتمسك بالدستور الدائم؛ لأنه لن يؤدي إلى تطبيق القرار ٢٢٥٤ الذي تدعي دائمًا أن كل الإجراءات التي قامت بها هي من أجل تطبيقه، بحسبان أن الدستور الدائم لا يمكن أن يتطرق للقضايا الحساسة من قبيل محاسبة المجرمين وتعويض المتضررين والعدالة الانتقالية وعودة المهجرين ورد الملكيات … وبالتالي العودة مجددًا إلى مربع الاستعصاء السياسي، وعسكريًّا وصلت الجبهات إلى خط مناطق النفوذ الدولية، وجميع تلك الدول حريصة لأبعد حدٍّ على عدم الاحتكاك العسكري المباشر فيما بينها.. لا سيَّما أن اللجنة العتيدة حتى لو أقرت أفضل وأكمل دستور على مستوى العالم، فإنه غير قابل للتطبيق، وسيطأه تحت اقدامه أول حاجز للشبيحة على تخوم سورية المفيدة، والكل يُدرك ذلك بمن فيهم الروس.
وصحيح أن الدول الأخرى تساوقت مع الطرح الروسي إلا أن ذلك لا يمكن أن يصل إلى حد قبولها بموضوع الحسم العسكري، وإعادة سيطرة النظام على كل سورية ليس من أجل خاطر الشعب السوري أو بسبب الدوافع الإنسانية، إنما لأن ذلك يمس بمصالحها الاقتصادية والإستراتيجية ومناطق نفوذها التي تضمن لها تلك المصالح.