جاد الغيث |
كانت وستبقى حلب القديمة بأزقتها وعبق رائحتها من أجمل الأماكن التي أحبها.
هناك كان لنا بيت جميل أذهب إليه كلما شعرت بالاختناق واليأس وكلما راودتني فكرة الرحيل عن حلب للأبد.
كان الكثير من أقاربي وأصدقائي قد ركبوا البحر إلى أوربا، وكانوا يدعونني دائمًا لاتخاذ قرار مصيري بمغادرة حلب الشرقية والخلاص من البراميل المتفجرة والرعب الدائم، وهناك في أي مكان آخر تبدأ حياة جديدة دون ذكرى أو تاريخ ومع أناس جُدد لا تعرف لغتهم، وربما لا تنسجم مع عاداتهم وتقاليدهم.
وقبل أن تبدأ تلك الأفكار القاتمة بالدوران في رأسي، كنت أهرع إلى الأزقة الضيقة التي كانت تبدو لي أوسع من العالم كله، كنت أمر بحارات الطفولة حيث وُلدت وحيث ذكرياتي الأولى الناصعة البياض.
كانت حلب القديمة رغم دمارها وحزنها تُعيد الفرحة لقلبي والسكينة لروحي،
(بيت حلب اليوم) في (حي أقيول) كان يشعرني براحة وسلام لا مثيل لهما،
وكانت المرجوحة الحديدية في الليوان تحملني لفضاء مقسوم إلى نصفين، نصفه أمنيات وأحلام ونصفه أوهام.
استأجرنا ذلك البيت مفروشًا من صاحبه، واتخذناه مكانًا للعمل والسكن والترويح عن النفس معًا، وفيه كنا نسهر ليالي الصيف في صحن الدار، حيث الياسمين ينشر شذاه ويطل القمر مبتهجًا في أوقات توقف القصف، كنا على بعد أمتار معدودة من خط التماس البارد مع قوات نظام الأسد.
كنا كثيرًا ما نهرع إلى القبو عندما تبدأ المدفعية القريبة برمي قذائفها حين يحلو لأحدهم أن يمطرنا بوابل من النيران بعد فترة صفاء وهدوء نعلم مسبقًا أنها لن تطول.
هناك كان وسيم وعمر وباسل وأحمد وأبو علاء الذي كان يستقبلني بابتسامته الماكرة ويوحي لي في كل مرة أنه في غاية الشوق لي.
كان أبو علاء يطهو لنا طعامًا لذيذًا لا يُقاوم طعمه، ويتفنن في تحضير أطعمة مبتكرة ممَّا يزيد من خضار وموجودات البيت، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان يُبدع في المخللات وتحضيرها، ومازال طعم مخلل (الجبس) يثير شهيتي لتذوقه مجددًا.
سهراتنا في البيت العربي الهادئ الجميل لا تُنسى، كنا نلتقي رغم أوجاعنا فنغني ونرقص ونرفع علم ثورتنا ونضحك من أعماق قلوبنا ونحن نمازح صديقنا علاء الذي ابتكر مفردات لم نسمع بها من قبل، وله حركات وأصوات تزيد ابتهاجنا بحياة لا نعرف غير لونها الأحمر، فالثورة مستمرة والدماء لم تجف والقصف لم يهدأ.
في ذلك البيت العربي كتبت فقرات عديدة لبرنامجي الإذاعي الصباحي (صباح الخير يا حلب) وأجريت مقابلات إذاعية على ضوء الشمعة، وصورنا حلقات تلفزيونية في صحن الدار المزينة بأوراق النباتات الخضراء، ورسمنا مع نجوم الليل مستقبلاً رائعًا للحرية ولسورية معًا.
لكن أيامنا الأخيرة في ذلك البيت الجميل كانت دامية، فقد تهدم جزء كبير منه بفعل قذيفة، وخرجنا في ليلة ظلماء وتركنا خلفنا كل الكاميرات وأدوات التسجيل والذكريات.
وفي ذلك البيت الذي أظنه صار حطامًا بعد أن استولى عليه نظام الأسد عليه، كانت شعلة الثورة توقد من أرواحنا وصبرنا وخوفنا ورجائنا.
كم أحن للعودة إليه ولو لساعة واحدة! كم أتوق لأسمع صوت مؤذن المسجد الصغير في أول الزقاق! نسيت اسم المسجد ولم أنسَ وجه الإمام المشع نورًا وصبرًا وقد تجاوز السبعين.
كم أحن وأحن وأحن! وللحنين أنشودة تعزفها الكلمات، فتطرب لها الذكرى، ولكنها تترك في القلب مئة غصة على أيام كانت ثورتنا في عزها، واليوم تموت الأيام قبل أن تولد، وساعة بعد ساعة تخبو ثورتنا وننطفئ نحن من أعماقنا.