عبد الله درويش |
منذ وعينا على الحياة نعرف أن الفراق صعب، وأن وطن الإنسان يمثل الأم الحنون، وكم تعرض الإنسان للمخاطر في سبيل حماية ترابه! حتى خاطب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بلده مكة: “والله إنك لأحب بقاع الأرض إليَّ، ولو لم يخرجني أهلك ما خرجت. “
ولكن ما الذي حصل لأبنائك يا وطني حتى بات الرحيل عنك مكافأة يُكافأ بها المميزون منهم؟! وبات هجرك حلماً يراودنا كلما خلدنا إلى النوم؟!
في حياتي كنت أستبعد أن أستأجر بيتًا، لاعتقادي بأن البيت المستأجر ليس ببيت، وليس بستر لساكنيه، وفي هذه الظروف (التهجير والنزوح) اضطررت لاستئجار بيت متواضع جدًا، وكم أعتبر نفسي محظوظًا بأني ظفرت به، فالكثيرون لا يستطيعون السكن حتى في خيمة!
وأدركت كم كانت قناعتي صحيحة، فأنا لست حرّاً في هذا البيت، وفي كل يوم أتصور أن يطلب مني صاحب البيت المغادرة أو زيادة الأجر.
وهكذا الوطن، لا يكون وطنًا بالأجرة! لا يكون وطنًا مؤقتًا، ولا يُقدّم عربون صداقة من أحد.
يقول ديك الجن:
“لا أمقت شيئًا في هذه الدنيا بقدر ما أمقت فكرة البيوت المستأجرة، بيوتنا هي أوطاننا الصغيرة، فكيف تكون أوطاننا مستأجرة؟! كيف نطرح أنفاسنا وضحكاتنا ودموعنا ولحظات حياتنا كلها في مكان يجب أن ندفع إيجاره في نهاية الشهر وإلا طردنا منه؟ كيف نكون بشرًا على هذه الأرض ونحن لا نملك ما تملكه النملة والنحلة ودودة الأرض؟ تقول آسية زوجة فرعون، رب ابنٍ لي عندك بيتا في الجنة، حتى في جنة الخلد، نحتاج كبشر إلى أربعة جدران تؤوينا، وسقف يظللنا، وحيّز نسميه البيت، الوطن!”
بعد نزوحي من قريتي التي دمرها النظام الهمجيّ التي لم تعد آمنة بفعل القصف المستمر، فكرت بالهجرة التي كنت أرفضها باستمرار، قلت في نفسي: أحتاج مكانًا آمنًا بعيدًا عن الخوف والقتل، وأضمن تعليمًا لأولادي بشكل مستقر.
وساعة فكرتُ بذلك خيمت على كل مشاعري وأفكاري نظرة سوداوية لما تبقى من بلدي!
من يستعد للهجرة من بلده، يهاجر شعوريًا قبل الهجرة والبعد الجسدي، وعلى ذلك كم وكم من الناس هم بيننا جسدًا إنما كل همهم وتفكيرهم وشعورهم في مكان آخر!
الوطن مزيج من الواجبات والحقوق والقيم، وليس سريرًا ننام فيه، أو قبرًا نُدفن فيه.
في الفترة الأخيرة أصبح البعض يتفنن في سبل هجر الوطن، فمنهم من يتخلى عن قيمه، ومنهم من يتخلى عن أسرته، ومنهم من يُسوٍّق لنفسه من خلال مسائل التواصل الاجتماعي، لكن في المثل الشعبي: ” اللي بيطلع من داره بخفّ مقداره”، فبالرغم من بعض الصور التي تظهر إبداع ورفاهية من هاجر، إلا أن هناك مئات بل آلاف الصور المأساوية للمهاجرين، وحسبنا ما يجري للراغبين بالعبور إلى البر الأوربي حاليًا، وممن عبروا سابقًا ويعيشون ضمن ما يشبه الأقفاص، أو ممَّن يعملون ليل نهار كالآلات لتوفير عيشة بسيطة جدًا، أو التخلي عن القيم والمعتقدات التي كافح من أجلها طويلاً، ولم تسقط إلا في بلد المهجر.
فلكم الله أيها الطغاة المستبدون الذين جعلتم من هجر الوطن حلمًا، ومن التخلي عن الأرض مشروعًا، إلا أنه قد مضى على أرض سورية من أمثالكم الكثير وبقي الوطن، فنيرون مات ولم تمت روما.