علي سندة |
كل إنسان يُحب أرضه ويحنُّ إلى بيته ويجد فيه الراحة ولو كان (قن دجاج) كما عبَّر القدماء، وهذا يصح إذا كان المكان آمنًا خاليًا من الألم والموت والحزن والجوع، أما نكران الراحة والاطمئنان في مكان النزوح أو الهجرة وتوصيف الواقع على مبدأ المثل الشعبي “عيني فيه وتفو عليه؟!” فهذا منافٍ للطبيعة البشرية ويخرج إلى الجحود والكذب على النفس والآخرين، وهذا الصنف بالذات يتمثل بشريحة لدى السوريين الموجودين في تركيا خاصة.
إن تفضيل ما هو ضد فطرة الإنسان على ما هو خير له نتيجة مواقف سلبية تمرُّ بالنازح سواء داخل سورية أو تركيا على وجه الخصوص، يُنافي الفطرة التي خلقه الله عليها، لقوله تعالى: “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” إذ لا يعقل أن يُفضِّل الإنسان القصف والخوف على الأمان والطمأنينة، فما سبب تلك التفضيلات الخاطئة؟
ينبع ذلك غالبًا من مواقف مؤلمة تفرزها غربة المُهجَّر، لكنها تبقى مجرد كلمات لمواقف بعينها ناتجة عن موقف عنصري تعرض له المهجَّر أو غلاء إيجار أو معاناة عامة أو حتى معاناة من ألم الغربة نفسها والشعور بالوحدة، وغيره من الأسباب..، وهؤلاء وإن قالوا ذات مرة بتفضيل المآسي على ما هم فيه فإنهم غير ملومين؛ لأنهم فعلاً يعانون من غربتهم، ويعملون ساعات طويلة في سبيل تأمين لقمة عيشهم مقابل أجور تكاد تكفيهم.
لكن السؤال: ماذا لو كانت المواقف شهوة حكي؟!
إن المزاودة أمام الآخرين في حب الوطن وشتم المكان الذي هو فيه بل لعنه أيضًا، أمر لا مبرر له سوى المزاودة على الآخرين في سبب وجودهم في تركيا خاصة أو في مكان آخر غيرها، حتى يصل الأمر إلى التعبير التالي: “ما أحلى القصف والحصار والجوع عمَّا نعيشه الآن! حاجتنا ذل وقهر لا برحمونا بالإيجارات ولا بالعمل الذي مصوا فيه دمنا.”
وفي الوقت نفسه يحدثك صاحب الكلام السابق عن الأماكن والحدائق التي زارها في تركيا وعن سهراته، وأنه في أمان وهدوء بعيدًا عن القصف والحصار والقتل، والماء والكهرباء متوفران والأولاد يذهبون إلى مدارسهم باطمئنان، ويركب السيارة ويلبس أفضل اللباس ويأكل أطيب الأكل على حدِّ قوله، ويستغل الأماكن الجميلة ليتفسح وعائلته، وفي الوقت نفسه يشتم ويلعن المكان الذي هو فيه! وإن سألته ما هذا التناقض؟! يُجيبك: “أخي لا يوجد أحسن من بلدنا، والإنسان لا يرتاح إلا ببيته.”
ليس عيبًا أو حرامًا أو انهزامًا أو خيانة للوطن أن تصدق نفسك وتصدق الآخرين فيما أنت فيه، وأن تتمنى الخير للبلد الذي احتضنك ولأهله بغض النظر عن الموقف، وفي الوقت نفسه تمنَّى ما شئت لنفسك من عودة لوطنك وبيتك وأهلك وأصدقائك، ولا داعي لمواقف شهوة الحكي وبيع الوطنيات، فكل إنسان من قلب محنته تمنَّى ولو لمرة أن يخرج منها ويعيش في مكان آمن على الأقل لأجل أمه أو أبيه أو زوجته أو أطفاله إن لم نقل لأجل نفسه.
حقيقة الأمر السابق تتعدى من هم في تركيا إلى من هم في الداخل السوري، فترى أهل الداخل يزاودون بالوطنية على من هم في الخارج وفي الوقت نفسه لديهم أقارب وأولاد أرسلوهم إلى تركيا وبقوا هم يؤجرون البيوت ويتابعون أرزاقهم بل منهم من جلس في مخيم على الحدود التركية وأجَّر بيته بالدولار للنازحين! بل ترى من هو داخل مناطق سيطرة النظام راضٍ بالعيش تحت نير العبودية والذل باسم الوطن والمؤامرة لكنه يرسل أبناءه مخافة خدمة العلم إلى مناطق سيطرة الثوار وفي الوقت نفسه تراه يشتم مناطق الثوار ويدعو عليهم!
داء المزاودة خاصة في الوطنية له دوافعه لدى أصحابه، لكن في الوقت نفسه ليس مطالب السيد مزاود بإظهارها في معرض الحديث عن الوطن خاصة في الغربة “لأني حارتنا ضيقة ومنعرف بعض”.