“أمي فيئي والله لاقيت أولاد نايمين بالبناية الفاضية جنبنا” لم أستوعب أو أصدق ما قاله ابني في البداية، فقد كان يومًا قارسًا ومتعبًا لي، وكنت أغط في نوم عميق إلا أنني انتفضت حين قال لي بصوت مرتفع: “إذا ما فئتي رح جيبهم يناموا عندنا” وقتها تذكرت أنه في الصيف الماضي كان يُلح على إحضار جراءً وقطط صغيرة من ذاك البناء، قررت الاستيقاظ للخروج والتأكد من صحة كلامه، فمن غير المعقول أن يتشرد أطفال في مدينة باتت مزدحمة بمئات الآلاف من السكان والمنظمات والجمعيات الإنسانية التي تُعنى بشؤون الأيتام والنازحين.
كانت ليلة من أشد ليالي الشتاء برودةً، جميعُ الناس في بيوتهم والساعة حوالي العاشرة مساء، لا أحد في الشوارع سوى سمّان الحي الشاب مع بعض رفاقه، كان ابني برفقتهم عندما شعروا بحركة غريبة في البناء المجاور، دخلت البناء وأشعلت الضوء من هاتفي وأمعنت النظر، يا إلهي!! إنهم حقًا أطفال صغار افترشوا الأرض والتحفوا غطاء واحدًا وتوسدا كتبًا.
للوهلة الأولى وقفت مندهشة لا أصدق عيناي، عشرات الأفكار والتساؤلات بدأت تدور في مخيلتي، من هم؟! من أين جاؤوا؟! أين والديهم أو أقاربهم؟! المهم أنني أيقظتهم بلطف كيلا يتفاجؤوا أو يخافوا، نفضوا النوم عن أعينهم وهم يرتجفون بردًا، ثلاثة صبيان تبدو عليهم مظاهر الشقاء والتشرد من شعرهم وأظافرهم الطويلة وملابسهم البالية وأحذيتهم الممزقة، وجوه بائسة أوحت لي بتخاذل العالم وتآمره على طفولتهم، اختزلت قصصًا وحكايات وتجارب مروا بها.
لم أشأ أن أزعجهم بالأسئلة، اصطحبتهم إلى بيتي وتركتهم يعاودوا النوم مع أولادي، بينما جلست في غرفتي أبكي حال حالهم، عملي كإعلامية يفترض عليَّ نقل معاناتهم والاتصال بالجهات المعنية والمسؤولين في المدينة، وبالفعل تواصلت مع الكثيرين وجميعهم وعدوني خيرًا في الصباح، لا أخفي عنكم أني فكرت مليًا فيما إذا كنت سأبقيهم عندي أم لا، لكنني لا أملك القدرة على تربيتهم وإعالتهم إلى جانب أطفالي الثلاثة الأيتام أيضًا.
من الطبيعي أن ترى في النهار أطفاًلا مشردين في شوارع وحدائق المدن، في بلد أضنته الحرب منذ أكثر من سبع سنوات وذلك بسبب ارتفاع نسبة الفقراء والأيتام بين السوريين، لكني لم أتوقع أن أراهم بأم عيني بهذا المنظر، فلا المكان والزمان يليقان ببراءتهم.
أخيرًا جاء الصباح الذي انتظرته بفارغ الصبر، وهممت بإعداد الفطور ريثما يستيقظوا، جلسوا بجانب بعضهم كأنهم في مدرسة أمام أستاذ يتبادلون ارتداء سترة بينهم، فتحت أحاديثًا منوعة كي أشعرهم ببعض الأمان والاطمئنان، وبين الحين والآخر أطرح سؤالًا عليهم لتتضح لي قصة تشردهم.
“جميل” 13 عامًا كان أكبرهم يهتم بأمورهم والأوسط “كُلال” 11 عامًا وأصغرهم “بلال” 8 أعوام، وحكوا لي أنهم أضاعوا أخاهم الرابع بالقرب من محل بوظة ملس في إدلب، بحثوا عنه كثيرًا ولم يجدوه.
هم من سكان مدينة حلب من حي (السكري) توفي والديهم تباعا مع أختهم الصغيرة 4 سنوات إثر الغارات الجوية التي شنها النظام وروسيا منذ أكثر من عام على أحياء حلب المحاصرة، عاشوا بكنف عمهم لفترة خروج المدنيين من الحصار بالباصات. كان استهداف الميليشيات الإيرانية لتلك الحافلات سببا بتفرق الأولاد عن عمهم، ظنوا أنه سافر إلى تركيا، وما أثار استغرابي لماذا لم يذهبوا مع باقي أقاربهم إلى تركيا؟! فاجأني جميل:” إذا الواحد عم يترك أولادو ويهرب بدو ياخد ولاد غيرو؟!”
سنة كاملة قضوها في “سلقين” شمال غرب إدلب، يتنقلون من بناء لآخر خوفًا من أن يتعرضوا للأذى من قبل أحد، يبيعون علب البسكويت ليقتاتوا منها وعلى ما يتبرع لهم الناس خلال رحلة شقائهم، يبدو من كلامهم أنهم اعتادوا على التعامل مع كل المواقف والمشاكل التي تواجههم قدر استطاعتهم، فالحرب وقساوة ظروف الحياة جعلت منهم رجالًا قبل الأوان، فما رأوه وعاشوه من قصف وقتل وتدمير وأشلاء في أحياء حلب هوّن عليهم كل الصعوبات.
بعد أحاديث ومناقشات معهم أقنعتهم أن دار الأيتام ستؤمن لهم الطعام واللباس والدفء والأمان والعودة إلى المدرسة دون أن يبذلوا أي مجهود، لكن على ما يبدو أنهم لم يقتنعوا بهذا الكلام، طلبوا مني أن أشتري لهم علبة بسكويت ليبيعوها قبل ذهابهم، أعطيتهم رقمي وعنوان منزلي بالتفصيل في حال احتاجوا لأي مساعدة.
في مساء ذات اليوم اتصلت بي “هناء” المسؤولة عن إيصالهم لفريق مأوى الأيتام وأخبرتني أنهم هربوا من عند الحلاق عندما أرسلَتهم ليقصوا شعرهم قبل الاستحمام، بحثنا عنهم كثيرًا لمدة يومين متتالين ولم نجدهم حتى أن المكان الذي ناموا به لليلة واحدة لم يمروا به ليأخذوا غطاؤهم، ندمت لأنني لم أصورهم كي أعمم صورتهم على وسائل التواصل الاجتماعي لأنهم منعوني من التقاط صورة لهم وغطوا وجوههم بسبب أن ثيابهم كانت متسخة وشعرهم غير مصفف وطويل.
مرت أربعة أيام دون أن أعرف عنهم شيئًا، إلى أن أخبرني ابني أنه رآهم بمحل لألعاب الكمبيوتر يلعبون بالـ “الكونتر” وقالوا له: إنهم سيمرون عليَّ، وبالفعل جاؤوا وبدأوا يروون لي ما حدث معهم، لم تعجبهم فكرة أن يذهبوا إلى الميتم أساسًا، لأنهم أضاعوا أخاهم الرابع، فكيف يذهبون بدونه؟ وحينما هربوا أخذوا النقود التي أعطتهم إياها (هناء) ليلعبوا بها وإذ بهم يلتقوا بأخيهم الرابع مع ابن عمهم الذي ظنوا أنه في تركيا، كانت السعادة تبدو على وجوههم بإيجاد عمهم وقال لي جميل: “خالة خدي الحرام من البناية الفاضية إذا بدك ما بقى يلزمنا” فقلت في عقلي: “الحمد لله، أخيرًا أصبح لهم معيل” على الرغم من أن لديه 6 أطفال لكنه يبقى عمهم ولا يهون عليه تشردهم.
لم يكن لقاؤهم مع عمهم هو نهاية القصة، بل كانت بداية لرحلة تشرد جديدة ليساعدوه في مصروفهم وتأمين لقمة العيش، يمكن لأي إنسان أن يجدهم أمام المطاعم والجوامع وعند مفارق الطرقات وحول ساعة المدينة يحملون علب بسكوت إضافة إلى الجوارب التي يبيعونها، يُلحون على المارة كي يشتروا منهم، إنهم ليسوا متسولين بل محتاجين ومساكين، بلا مستقبل ولا دراسة وأكبر أحلامهم أن يصبح عندهم بسطة صغيرة يقتاتون منها، أحلامهم لاتشبه أحلام أطفال العالم، فقذائف الحرب دفنت أحلام كثير من الأطفال بأن يصبحوا أطباء ومهندسين ومعلمين وطيارين تحت ركام منازلهم.
المضحك المبكي في القصة أنهم أصبحوا يمروا لعندي بشكل مستمر، لكن ليس لوحدهم بل معهم 3 أطفال آخرين، “عمر” من إدلب المدينة عمره 8 سنوات والده مريض سكر قدمه مبتورة، و”محمد” عمره 11 عامًا من حي بابا عمرو بحمص يتيم الأم وأبوه ضرير وعنده أخوة يعملون مثله وزوجة أب، والأخير من ريف دمشق لم أعرف شيئًا عن تفاصيل حياته، نعم لقد جمعهم التشرد، تفاجأت بطلباتهم، طلبوا حليبا أو فوط أطفال أو حتى طعام، ابتسمت في موقف محزن وفكرت مليًا فأنا لا أملك ثمن كل هذه الأشياء، واقترحت عليهم أن أصنع لهم صندويشات من الزيت والزعتر، قبلوا وإن كانت خلاف ما توقعوا أن ينالوه مني.
كانت تلك قصة من بين مئات قصص تشرد الأطفال السوريين داخل البلاد وخارجها التي باتت تثير قلق بعض المنظمات والجمعيات بمحاولات منها شبه يائسة في إيجاد حل لتلك المأساة المتزايدة بشكل واضح.
إلى حين هذا اليوم لا يوجد إحصائيات حول أعدادهم، إلا أنهم أكثر من 200 طفل في مدينة إدلب وحدها.
ليس عليك أن تبذل مجهودًا كبيرًا في وطني لتجد أطفالًا مشردين، إنما عليك فقط أن تُمعن النظر في عيون الأطفال وملامحهم، في ثيابهم وأحذيتهم، في أيديهم الخشنة التي تشبه أيدي الرجال، الألم والقهر في مدينتي لا ينتهيان، والموت والقذائف تباغت كل شيء فيه، حتى أنها تطال الخيام أحيانًا، فأين يتشرد المتشردون؟!