إن إحداث أي منظومة شرعية يتطلَّب مسبقاً معرفةَ المكان والزمان المناسبين لها، فكثيراً ما تقتضي ترك أمر لعدم ملاءمته، إما للطبع، أو الفهم، أو الحال، والاستعاضة عنه بغيره، إلى حين استعداد الناس لتلَقيه. وكانت مجموعة تابعة لهيئة “تحرير الشام” تسمي نفسها “سواعد الخير” قد أعلنت في الثامن والعشرين من شهر آذار/مارس، عن مشروع “إدلب الخير” لوضع نظام وقانون شرعي يلزم الناس به، معللين ذلك بالحرص على مصلحة العباد، والحفاظ على تضحيات المجاهدين لئلا تذهب سدى، وﻷن الناس محتاجون إلى نظام يسيرون على هديه، وسلطة تحرص على تحقيق هذا النظام ..
إن التغيير الذي تنشده “سواعد الخير” ليس بالأمر السهل، فالأعراف التي استقر عليها الناس وتشرَّبتها نفوسهم، لا تتغير بدعوة توجه، أو نظام ينهى ويأمر، فلا يُتَصوَّر اقتلاعها في يوم وليلة، وإن أي تبديل فيها يجب أن يكون مقنعاً للعقول، مناسباً للظروف، قابلاً للتطبيق، وإلا فتكونُ إكراهاً ولا يصِحُّ في الدين إكراه.
وكانت “سواعد الخير” قد ارتكبت العديد من الأخطاء بحق أهالي مدينة إدلب، ما جعل الأهالي ينفرون عند سماعهم بها، ففي العاشر من شباط الماضي أوقفت حافلة نقل داخلي تتبع لمنظمة “بنفسج”، واعتقلت سائقي بعض الحافلات بتهمة “الاختلاط” ثم أطلقت سراحهم، كما طالت حملة اعتقالاتهم طالبات وطلاب من معهد “DTC”، وغيرهم اثنان من فريق “ملهم” التطوعي، ومن ثم إطلاق سراح واحد منهما والإبقاء على الآخر بتهمة تورطه في أعمال أمنية.
وفي 20/آذار اقتحمت هذه المجموعة ثانوية “العروبة” للإناث في مدينة إدلب بحجة اللباس غير الشرعي، حتى صار الناس يشتكون تدخلاتهم في شؤون الطلاب والمدرسين بحجة أفعال غير شرعية!
إن التقصير في الأخذ بمقومات النجاح يؤدي إلى الفشل، فبعض الدعاة يلقون الإعراض والنفور من الناس وبدلا من أن ينقدوا أنفسهم أو يغيروا أسلوبهم، يحكمون بفساد الناس ويلقون باللائمة عليهم. ومن المعلوم أن المقاصد الضرورية (دحض العدو، والحفاظ على أرواح المسلمين) مقدمة على كل شيء، تليها المقاصد الحاجيّة (بناء مستشفيات، مدارس.. إلخ)، ثم تأتي أخيراً المقاصد التحسينية (تنظيم معاملات الناس والتدخل في شؤونهم الحياتية)، كما رتبها الشارع الحكيم، وأي خطأ في ترتيب قائمة الأولويات بعكس قواعد الشريعة، يعود عليها بالفشل وتلقى السُخط وعدم القبول من الناس ولو كانت صواباً! كالدعوة إلى محاربة الاختلاط، الذي بات من الصعب تحاشيه جملةً، دون إيجاد حلول بديلة مُجدية، بالوقت الذي تهرق فيه دماء الناس، والجبهات تصيح، والعدو من كل حدب وصوب!
قد ينجح مشروع “إدلب الخير” في وضع “نظام شرعي”؛ لكنه غالباً سيخفق في تطبيقه، لأنه سيكون أول مخالف له، فكثيرا ما كان دعاتهم يقعون بالحمية الزائفة التي تأتي في غير موضعها الصحيح، وينفخ الشيطان في حميتهم بأن الحق أحق أن يتبع ويثير التساؤل: أين الغيرة الإيمانية والحمية الإسلامية؟! ليغطي على الرحمة واﻷناة التي تنظر في عواقب اﻷمور، فإذا بهم يدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور بدعوى الفسق والابتداع دون تبصر لخطر شيوع هذه الاتهامات بين صفوف المسلمين.
الخلاصة: (المعروف قد يترك فعله والحض عليه، والمنكر قد يترك النهي عنه والإنكار عليه، بل قد يُدعى إلى ترك بعض أفعال الخير ويقصد إلى فعل بعض المنكر، وكل ذلك باعتبار تحقيق المصلحة ودفع المفسدة) مجموع فتاوى ابن تيمية.