ربّما غابت “داعش” عن الصورةِ التي ظهرت بها خلفَ قضبانِ سجونِها، فمعظمُنا يعلمُ عنها معلوماتٍ بسيطة جداّ، وذلك بحسبِ التسريباتِ من معتقلين سابقين أُفرج عنهم “بمعجزة”، وأنا سأدرجُ في هذا المقال قصة معتقلٍ كان الموت أقرب إليه من أنفاسه وهو م، د الذي روى لصحيفة حبر قصته كاملةً منذ أن طرقوا بابَ منزله إلى أفرجوا عنه بأعجوبة!
سياسة الحرب الباردة!
م.د هو شاب يعيشُ في محافظةِ الرقة في سوريا مع أهله ويعملُ ويصبرُ على المعيشة تحت أجواء القمع من داعش، ويبدأ م،د بسرد قصته لصحيفة حبر: “في تاريخ 15 كانون الثاني/ يناير من العام الجاري في محافظة الرقة وفي تمام الساعة الواحدة أتت عدة سياراتٍ خرجَ منها ما يقارب الثمانية عناصر، وانتشروا في الزقاقِ وطرقوا باب بيتي ثم وجّه أحدهم لي سؤالاً “أنت م،د؟” فأجبتُ بديهياً نعم، ثم قال لي نريد تفتيش المنزل، ثم دخلوا وبدؤوا بالتفتيشِ بشكلٍ هستيري، ثم وجّهوا لي سؤالاً آخر “هل تملك سلاحاً أو أجهزةً الكترونية؟”، أجبتهم لا يوجد لديّ أيّ أسلحة أو أجهزة الكترونية، وطلبوا مني أن أعطيهم هاتفي، ثم تمت مصادرة هاتفي وهواتف عائلتي، وبعدها قال لي: “تفضّل معنا” أجبتهم بما الأمر” وكالعادة قالوا: “لا شيء سؤال وجواب!”، ظننت أنّ الأمر مجردُ شيءٍ عادي لأنّني أيقنت حينها أنّني لست بفاعلٍ أي خطأ!”
ويتابع، ذهبتُ معهم في سيارتهم ووضعوا لي قماشة على عيوني، وبدأت بتقدير الوقت وكان ربعَ ساعة إلى أن وصلنا ثم قالوا “استلموه هاد هو”، أنزَلوني من السيارة وضعوني بسجنٍ منفرد، ثم بقيت في السجن ما يقارب الثمانية عشر يوماً، وبعدها نُقلتُ إلى مكانٍ آخر، لكن أيضاً وضعوني هناك في سجنٍ منفرد وبقيتُ هناك فترة أسبوع، وفي هذه الفترة لم يسألوني أيّ سؤالٍ، وبعد ذلك أيضاً نُقلتُ من هذا المكان إلى مكانٍ ثالث أيضاً ضمن سجنٍ منفرد وبقيتُ هناك ما يقارب الشهر والعشرين يوماً، وبعد تلك المدة أتى السجّان وقال لي “هات غراضك وتعال”، أنا هنا كانت فرحتي لا توصف لأنّني كنت أظنّ أنَّ الأمر انتهى ولا يوجد أي شيء والأمر سوء تفاهم، وقام السجّان كالعادة بوضع قماشةٍ على عيوني وذهبَ بي إلى غرفةٍ وقال لي اجلس، جلستُ وأنا أسمع أحدهم يكتب على جهاز الكمبيوتر وبدأ المحقّق بالكلام معي وقال لي: “لنبدأ بالدردشة، ما هو حالك الآن؟ وعن ماذا ستكلّمنا؟” أجبته أنا بخير، لكنني هنا منذ شهر وعشرين يوماً تقريباً ولا أعلم لماذا!
إما أن تُضرب أو تتكلم عن شيءٍ لم تفعله!
وأكمل م،د “ثم قال لي بكلّ بساطة: “أنت لست بريئاً!”، وبدأ بتوجيه سربٍ من الأسئلة مثل “من الذي طلبَ منك العمل؟ من الذي طلب منك التصوير؟ من الذي طلب منك احداثيات؟ وكيف قمتَ بتهريب أبو يزن التونسي وأبو يوسف و و و.. وما هي المبالغُ التي طلبتها منهم؟” أجبته بأنّي لا أعلم عما يتكلم، وانتفض بعصبية وقال أنا أعلم عن ماذا أتكلم، وأنا أعلم أنك تعلم جيداً عن ماذا أتكلم، وبحكم أنّني فعلاً بريء من كل ذلك قلت له: أنا “بمشي الحيط الحيط وبقول ياربي السترة!”، ثم سألني عن أشخاص معينين وأنا كنتُ أول مرة أسمع أسماءهم!”
ويكمل م،د، قال لي هؤلاء من أتوا لنا بالمعلومات عنك، أجبته ضاحكاً بأنه من الممكن أن يكون الأمر تشابهَ أسماء ، ومن حينها أصبحت لا أرى غير الأيدي التي تضربني على كافة أنحاء جسدي والأقدام التي تغور في معدتي، وقال لي: “إذاً أنت لن تتكلم؟”، أجبته بكلّ صراحة أنا لا أعلم أساساً عن ماذا تتكلم، وبقيتُ حوالي النصف ساعة و جسدي يُركل ويُضرب من كافة الأماكن ثم نادى السجان وقال له: “خذه من هنا”، وعدت إلى السجنِ المنفرد وبقيت هناك فترة أسبوع، وبعدها طُلبت للتحقيق مرةً أخرى ، وأعاد لي ذات الأسئلة التي وُجهت لي في المرة السابقة، وقلت له: “أنا إلى الآن لم أصدق أنك تريد مني شيئاً وأنا أساساً لا أعلم عن أيّ شيء تتكلم، ببساطة أنت تريدني أن أتكلم عن أشياء لم أفعلها بتاتاً”، قال لي وبثقة كبيرة: “توجد لدينا اثباتاتٌ ودلائلُ عما فعلته”، قلت له: “إذاً أريد أن أرى 1% من الاثباتات التي تتكلم عنها وأنا حينها راضٍ عن عقوبتي وافعل بي ما شئت”، وحينها كانت بحوزته حديدةٌ طويلة وكبيرة يحملها في يده، وقال لي: “استلق على صدرك الآن” وبدأ بضربي بالعصى على ظهري بكل ما أوتي من قوة وشعرت حينها أن عظامي بدأت تتكسر رويداً رويداً حتى أنني لم استطع أن اتمالك أنفاسي حينها من شدة الضرب، ويقول لي وهو يضربني: “تكلم الآن وإلّا سوف أكسر الحديدة على ظهرك”، وأنا عقلي ليس معه كلياً وكنت أفكّر فقط بالألم الذي يتمدّد في جسدي بسرعة كبيرة وصوتي يعلو أكثر فأكثر من شدّة الضرب، لكنَّ المضحك أنه كان مستمتعاً جداً وأوقفَ مسيرة الضرب حين أتى شخص وسأله عني و ليته لم يأتِ، لأنّه أتى بحديدة أخرى وأصبح الوجع مضاعفاً وبدؤوا بضربي على ظهري وأقدامي، وأنا أتوسّل إليهم بأن يُوقفوا ذلك وهم يزدادون أكثر فأكثر، إلى أن لم أستطع الوقوف ولا الجلوس بسبب الضربِ على ظهري، وبعدها نادى لأحد السجانين وقال له: “خذه من هنا وإلا قتلته”، وهذه المرة ذهب بي إلى مهجع.
رقم قياسي!
استكمالاً لما سبق “دخلتُ إلى المهجع ورأيت ما يقارب الـ 22 شخصاً نظروا إليّ وكانت حالتي يُرثى لها وسألوني: “ما بك؟ ما الأمر؟”، أجبتهم وأنا أبكي لا أعلم حتى لماذا أنا هنا أو لماذا ضُربت وكُسرت عظامي.
قالوا لي: “قال لنا السجان إنك عميلٌ وتذهبُ لتصوير مقرّات عناصر داعش وبيوتهم، ومنذ متى أنت هنا؟”، وعندما أجبتهم أنّني كنت ما يقارب الشهرين في المنفردة فدُهشوا بذلك، وبعد يومين ارتحت قليلاً وساعدني المعتقلون، وبعدها طٌلبت مرة أخرى للتحقيق وأنا حينها كنت أرجو الموت قبل الذهاب إلى هناك، وأعادوا الأسئلة التي يوجهونها لي في كلِّ مرة، وأعدتُ نفس الأجوبة أيضاً، وبعدها قال لهم المحقق خذوه من هنا استغربت كثيراً لأنّه عادة يضربني بعد ذلك أو بالأحرى يكسر عظامي!”
“لكنهم بعدما ذهبوا بي إلى غرفةٍ لوحدي علّقوا يداي في السقف وهذا ما يعرف بـ “الشبح” ومن ثم ذهبوا ومضى على جسدي يومان وهو معلقٌ بالسقف والأرض، ولكنّني لم أكن أشعر أبداً، وأتوا بعدها وأنزلوني أرضاً وأعادوني إلى المهجع وسألني المعتقلون “أين ذهبوا بك؟” قلت لهم وأنا أضحك “انظروا إلى يديّ تعلموا أين كنت!”، وبعد يومين جاء السجان وقال لي: “قم بتجهيز نفسك ستذهب إلى المحقق”، وأنا هنا بدأت أرى المحقق كأنه كابوس، ذهبتُ إليه وقال لي: “ما هو عدد الأشخاص الذين تتواصل معهم في تركيا؟”، أجبته أنني أتواصل مع أصدقائي المقربين هناك، وهم بنظرهم أنه كل شخص يذهب إلى تركيا فهو عميل وصفحته شديدة السواد، وسألني عن عدة اسماء وأنا اجيبه هذا خيّاط مثلاً وهذا نجار وهو يشتدّ غضباً ويقول لا هذا عميل، وأنا هنا صمتت ولم أتفوّه بأيّ حرفٍ من شدة الرعب والخوف.
وبعدها قال كالعادة خذوه من هنا، وبعدها ذهبوا بي إلى ذات مكان “الشبح” ورفعوني على آلة “البلنغو” وهي أن يربطوا يديك إلى الخلف ويرفعوك عالياً أي مثل “الخاروف” وبقيت هناك ثلاثة أيامٍ، ولم أعد أشعر بأيّ جزء من جسدي وكنت أتمنى الموت حينها في كلّ دقيقة وشعوري كان لا يوصف، وبعدها قاموا بإنزالي وذهبوا بي إلى المهجع، وبقيت هناك ما يقارب الخمسة عشر يوماً وبدأت بالتحسن، ثم قاموا بطلبي للتحقيق وهذه المرة السادسة التي أذهب فيها للتحقيق خلال ثلاثة أشهر في سجن الظلم هذا، وأنا هناك حطمت الرقم القياسي لأنّني كنت أول معتقل يذهب إلى التحقيق ست مرات خلال هذه المدة.
حُكِمَ عليك بالقتل!
ذهبتُ إلى المحقّق وقال لي: “أنصت لي يا م.د قد أتى حكمك بالقتل”، وأنا هنا كان يوجد بي القليل من الدم وبعد سماع ذلك جفَّ دمي، ولم أستطع أن أتفوّه بحرفٍ واحد، وقال لي هل أنت تخاف الموت؟، قلت له: “يا سعادة الشخص إن كان مظلوماً لا ظالماً!”.
قال لي: “لن أقتنع بأنّك مظلوم”، بالمختصر النقاش معهم لا يجدي نفعاً، هم يسألونك وهم يجيبون عنك أيضاً!”
وبعدها أعادوني إلى المهجع ومكثت هناك ما يقارب الستة أيام أنتظر موتي، بعدها طلبني المحقق للمرة السابعة، وعند دخولي بدأ بقتلي بشكل هستيري ومن شدة الضرب أردت أن أحرك يدي قليلاً ولم أستطع شعرت بأنّ عظامي فعلاً قد تكسرت جميعها، وبعدها نادى السجانين وقال لهم: “خذوه” لكن هذه المرة أحضروا قطعة قماشة سميكة وقاموا بلف جسدي بها “بحكم أنني لا استطيع التحرك أبداً” ووضعوني في المهجع، وهناك أجهش جميع المعتقلين بالبكاء على وضعي، وبعد يومين ذهبوا بي إلى مهجع آخر وكان به خمسة أشخاص، وفي اليوم التالي أتى السجان ونادى لأحد المعتقلين معي في المهجع وقال له ارتدِ هذه البدلة والتي تسمى “بدلة الموت الأرجوانية” وجميعنا حينها بدأنا بالبكاء خوفاً ورعباً وحزناً على هذا الشاب، وذهبوا به وأتوا في اليوم التالي وقالوا صديقكم قُتل قوموا بتجهيز أنفسكم للموت، وبعدها بقيت فترة أسبوع وطلبني القاضي وذهبت له، وقال لي: “أنت الآن بجلسة قضاء مع الشيخ أبو محمد العراقي وسألني منذ متى وأنت هنا؟” وبدأت الأسئلة وأنا أجيب وأخبره بكل ما حدث، وفي ذات الغرفة كان يوجد جميع المحققين، سألهم القاضي: “لماذا هذا إلى الآن هنا؟” جميعهم لم يجيبوا وصمتوا، لكنه سألني: “لماذا لم تطلب رؤيتي” وأنا في طبيعة الحال لا حول ولا قوة!
وسألني “أنت فعلاً لم تفعل كذا وكذا؟”، وأجبته كما كنت أجيب المحقق، وأكمل أسئلته: “هل فعلاً لا توجد لك علاقة في الموضوع؟ هل أنت صادقٌ بكلامك؟ وهل هذا جميعه افتراء؟ الخ..” وجاوبته كالعادة، وقال لي: ” ستخرج اليوم أو غداً” كانت صدمتي تماثل الصدمة حينما علمت بأنَّه حكم عليّ بالقتل!
وفي اليوم التالي صعدت إلى سيارتهم وقاموا بوضع قماشة على عيوني وأنزلوني في المدينة، وبدأت بالسير كالطير المذبوح وكأنّ روحي قد عادت من جديد، داعش تُلخَّص بكلمتين “عند التعذيب تتمنى الموت وفي لحظة الموت ترجو العودة للتعذيب!”.