صهيب إنطكلي |
أسكن في بيتٍ متواضعٍ على أطراف مدينة الأتارب، لم أكن أهتم حين استأجرته بأن يكون واسعًا أو مريحًا أو جميلًا؛ فهذا كله من الكماليات بالنسبة إلي؛ فقط انصب اهتمامي على أن يكون إيجاره منخفضًا جدًّا؛ ليتناسب مع دخلي المتواضع جدًا؛ عملي معلم تاريخ؛ وبالكاد يكفيني مُرتبي ألا يجوعَ أولادي ولا يعروا؛ آلاف المعلمين في المحرر وأنا منهم يعيشون تحت خطّ الفقر والعوَز؛ عزاؤهم أنّهم يعلّمون الناس الخيرَ؛ والله وعدهم الحُسنى.
ورغم قبولنا بالضعف الشديد لمرتبنا هذا إلا أنه لم يقبل هو بِنا؛ على مقولة (يرضى القتيل وليس يرضى القاتل)؛ فالراتب ليس منتظمًا ومستمرًا؛ وقد يغيب عنّا لأشهرٍ متتالية وربما لفصلٍ دراسيٍ كامل؛ يزورنا أحيانًا في المنام على شكل كابوس؛ من شدّة انتظارنا له في الصحو؛ وحين يهلّ علينا تكون ديوننا قد تراكمت وتجاوزته بعيدًا.
عينتني مديرية التربية الحرة في أبعد البلدات وربما وآخر بلدة تابعة لريف حلب الغربي، ورغم أني أعلمت مديرية التربية بمكان سكني وعدم قدرتي على شراء دراجة آلية تنقلني كل يوم في برد الشتاء وحر الصيف؛ إلا أنهم أبَوا إلا هذا التعيين، صرخ موظف التربية الحرة في وجهي: “ما في شاغر يا أستاذ إلا هناك؛ إذا ما حبيت فاختصاصك منو كتير” ابتلعتُ ريقي وحاولتُ التوازن أمامه؛ فتذكرت أولادي وزوجتي؛ ولوعتي في البحث عن عملٍ كريم دون جدوى؛ ثم استجمعت قواي وقلت له: “له يا أستاذنا؛ بقبل التعيين ولو” صرتُ أخرج من بيتي باكرًا جدًا؛ وفي الشتاء الحزين أقف في ظلِّ شجرةٍ حاملًا كتبي، وألوحُ بيدي لكل سيارةٍ أو دراجةٍ عابرةٍ علّها تنقلني إلى مدرستي أو قريبًا منها؛ ومن المواقف الطريفة والمؤلمة بآنٍ معًا أن أحد طلابي كان يركبُ سيارة متجهًا إلى المدرسة؛ رأيتُه من بعيد فنحّيتُ وجهي عنه؛ لكنه لمحني؛ صاح من الشباكِ: “تفضل أستاذ؛ طلاع؛ مو رايح على المدرسة؟” نظرتُ إلى نفسي مبللًا بالماء؛ حذائي غطاه الطين؛ صعدتُ معه دون أن أنطق بكلمةٍ واحدةٍ حتى وصلت باب المدرسة.
مرَّ الفصل الثاني هذا العام كئيبًا جدًا؛ كانت ظروفي الحياتية تطغى على نفسي فتؤلمها؛ حتى أن طلابي لاحظوا شحوبي وشرودي المتكرر.
زادت الضغوط عليّ أكثر وتراكمت الديون؛ السّمان وبائع الخضار وجارنا الذي استدنتُ منه آجار البيت؛ بعد أن أصر صاحبه على دفع إيجار ستة أشهر معًا؛ لم أعد أستطيع تحضير الدروس جيّدًا، فبدا واضحًا ضعفي أمام الطلاب.
فاضطررت لأن أقبل بأيّ عملٍ آخر مع التعليم؛ وعلى رصيف الشارع العام؛ صرت أضع خضاري وفاكهتي؛ بعد دوام المدرسة أُبسّطُ بها؛ والله هو الرزاق؛ مرت الأيام الأولى على عملي (خضرجي) ثقيلة جدًا؛ كنت أشعر بألم في روحي شديد؛ جاري صاحب البسطة التي بجانبي لاحظ اضطرابي؛ جاءني فقال: “يا خاي؛ انسَ أنك أستاذ؛ أنت أستاذ في المدرسة بس هون خضرجي؛ بدك تصيح على الخضرة وتتعلم وتفتح مخك” بدي أتعلم؟!
نعم نصحني جاري أن أتعلم؛ وأنا الذي قضيتُ شطرَ عمري حتى تخرجتُ من الجامعة.
في العطلةِ الصيفية تفرغت لبيع الخضار؛ كسرتُ الحاجز وصرت أصيح على بضاعتي بطلاقة؛ وصار عندي خبرة في (المسواق) الذي يعني شراء الخضار والفواكه من سوق الهال، جاري صار يقول: “والله الأساتذة غير شكل؛ مو متلنا ما معنا سادس” نعم، على قولةِ جاري غير شكل الأساتذة ببيع الخضرة خاصة أنهم الآن أصبحوا في الشمال السوري بلا رواتب نتيجة انقطاع الدعم، وربِّ يسر ولا تعسر.