نورس أبو نضال
إنَّ من إحدى الصفات البشرية أنَّ كلَّ شخص يرى الحياة من الموقع الذي يجد نفسه فيه، وعليه فإنَّه يقيس كلَّ فكرة أو قضية تطرح في المجتمع من الزاوية التي يرتئيها من جانبه، دون أن يدرك أو حتى يفترض أنَّه ربَّما يكون الخطأ من وجهة نظره ليس خطأً من وجهة نظري أو وجهة نظر غيري، ولذلك كان لا بدَّ له لإدراك الحقيقة كاملة من النظر إلى القضية من كلِّ الاتجاهات والزوايا ليدرك القيمة ذاتها المتعينة في الشيء نفسه.
إنَّ الاختلاف بين أفكار الناس واتجاهاتهم شيء طبيعي بل هو من المسلمات في الطبائع البشرية، فالاختلاف بالفكر حول موضوع ما يجب ألا يمس القيمة ذاتها، وألا يؤدي بأي حال من الأحوال إلى إلصاق الاستنتاج الذي توصل إليه أحد الأطراف بالقيمة، وأيضاً يجب ألا يؤدي الاختلاف إلى إفساد الود مع الطرف المقابل، وكما قيل: الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية.
لذلك أعتقد أنَّ من أكبر المشاكل الفكرية في الطبع البشري بشكل عام ولدى بعض أصحاب العقول المعرفية المتفكرة على وجه الخصوص هو إلصاقهم لتفكيرهم في قيمة ما بالقيم المجردة ذاتها، وإسقاطهم لتلك النتائج المتمخضة عن تفكيرهم على المبدأ ذاته.
فيصبح ما أنتجه عقلهم ليس أفكاراً تحتمل الخطأ والصواب، وإنَّما هي القيمة والمبدأ، وهنا يكمن موضع الخطأ في طريقة التفكير والاعتقاد أنَّه على صواب مطلق كأنَّه هو من أنشأ وصنع القيمة.
فانظر مثلا إلى تيار العقلانيين كما يصطلح لمن أعمل عقله في أمرٍ ما، فألصق بين تفاعلاته الفكرية واستنتاجاته العقلية وبين العقل ذاته، فأصبح الاعتراض على ما أنتج عقله اعتراضا على العقل ذاته، فقالوا: “إنَّ الدليل العقلي قطعي لا يقبل النقاش”.
فأصبحت اجتهاداتهم العقلية قطعية مع أنَّها شيء والعقل ذاته شيء آخر، فهي معقولات واستنتاجات وليست عقلا.
وعلى النقيض من ذلك ترى في التيارات الليبرالية التي نشأت تنادي بالحرية وتفسر وتكتب القواعد في الحرية والديمقراطية، يطلقون أفكارهم ويعتبرون أنَّها هي ذاتها الحرية كمبدأ وقيمة؛ أي أنَّ اعتراضك على مفهومهم أصبح اعتراضاً على القيمة ذاتها، أي على الحرية كمبدأ وقيمة مجردة، مع أنَّ الحرية كمفهوم تختلف من مجتمع لآخر ومن فرد لآخر حسب البيئة التي عاش فيها هذا الشخص.
فإن قلت لهم: كيف يكون الإنسان حراً بنظريتكم بالممارسة الجنسية المتفلتة وغير المنضبطة وغير المسؤولة؟ يقولون: هم أحرار ما داموا مختارين راضين! متناسين بذلك آثار تلك الممارسة وتداعياتها وخطورتها على المجتمع والصحة الجسدية، وما ينتج عنها من أمراض.
فنقول: لماذا يمنع لديكم تعدد الزوجات وهي علاقة قائمة على الرضا والاختيار والممارسة المنضبطة؟ فيقولون: هذه ليست حرية اختيار، وإن قامت على ذلك فضررها بالمجتمع له كذا وكذا!
بينما تجد في الوقت نفسه بعض التيارات الإسلامية كيف أنَّها ألصقت فهمها للشريعة بالشريعة ذاتها، فبات الاعتراض عليها اعتراضاً على الشرع ذاته، فقال بعضهم: (لنفتحن روما ولنملكن الأرض إن شاء الله)، وبعضهم أباح التفجير والقتل بأي مكان ولأيٍ كان، وكَفّر بعضهم كلَّ الفئات الأخرى حتى في الفروع، متناسين تماماً سياسة التمكين والضعف، ومن لا يقرأ التاريخ لا يمكن أن يفهم المستقبل، فأصبح الاعتراض على نهجهم اعتراضاً على الشرع ذاته.
وأمَّا الثوريين الواقعيين، فإنَّ بعضهم ألصقوا فهمهم للثورة ومبادئها، وما حصل وما سيحصل، وما طمح إليه الناس في الحصول على الحرية والكرامة واختيارهم لشكل دولتهم والتخلص من الاستبداد والتسلط والتحكم في مصيرهم، قد ألصقوا فهمهم وآرائهم وطموحاتهم الشخصية بالثورة ذاتها فصار الاعتراض على فهمهم للقيم الثورية والآمال والطموحات الشعبية اعتراضاً على القيم ذاتها؛ أي اعتراضا على الثورة ذاتها.
لذلك لا بدَّ لهذا الطبع من حلٍّ ناجع ربَّما يكون بوضع التعصب جانباً لما لم يتم التوصل إليه من حيث الاجتماع والاتفاق فيما بيننا فكراً وتفكراً، وبالفصل بين نشاطات العقول التي تبحر رغبة في الوصول الى قيم ومبادئ تحكم حركة الحياة.
أمَّا ما يكون قيمة بذاته بمعزل عن النشاط العقلي والهوى الفردي أو الجماعي المتبدل المتغير، فهو ما جاء قطعي الدلالة من مصدر يتصف بالكمال والسمو لا يعتريه عيب ولا نقص، ألا وهو خالق العقول سبحانه وتعالى، فليس لأصحاب العقل المعرفي والإدراكي إلا التسليم والإيمان به والعمل على التفكر بحكمه والتسليم لأمره تسليما.