لا يخرج الاستبداد من رحم الرأي الواحد بشكل دائم ظاهريًا، بل أحيانًا يُستخرَج من رأي الجماعة الشكلي، عندما يجيد المستبدون استخدام أساليب التمويه الديمقراطي في أعمالهم، فقد يبرع بعض من يحبون ممارسة الاستبداد في لعب أدوار الديمقراطية والمشاركة أكثر من غيرهم، بحيث يحشدون المناصرة لآرائهم عبر توسيع دائرة الاستشارة والمشاركة بشكل يصبح إغلاق هذه الدائرة صعبًا جدًا، وبالتالي تصبح آراؤهم مجهولة المصادر، ويُضفَى عليها طابع المشاركة في الرأي والاستشارة، بينما هي آراؤهم ومصالحهم وخطتهم التي وضعوها منذ البداية، لكنهم استطاعوا أن يضفوا شيئًا من الشرعية عليها.
فلو أنك مثلاً أخبرت الناس أنك تحتاج مشورتهم في أمر معين أو مشاركتهم تنفيذَ مشروعٍ ما، وأنت مستعد لتلقي آراء الجميع ومشاركاتهم، كما كانت تفعل بعض المؤسسات في بلادنا وما تزال، سيصبح عدد المشاركات والمشورات كبيرًا جدًا، وعدد المتقدمين للتطوع والمشاركة أيضًا كبيرًا جدًا، بحيث لا يمكن لأحد تتبعه وحصره، خاصة إذا كنت تتلقى ذلك بشكل شخصي أو عبر بوابات لرسائل غير متاحة التحقق من الأساس للجميع، عندها تفعل أنت ما تريد وما يخدم مصلحتك، وإن سألك أحدهم عن رأيه، أو مشاركته، ستخرج له فريقك (التقني) ليخبرك أنه من بين مئات المشاركات والآراء اخترنا الأفضل وما يناسب الوضع الداخلي والخارجي والممكنات وطبيعة العمل والمرحلة الراهنة والظروف المحيطة و….، ويسرد لك حكاية كاملة عن التعب والإرهاق الذي قضاه الفريق وهو يفاضل ويقارن ليصل للآراء السديدة التي اختارها نهاية، والحقيقة أنه لم يفعل شيئًا سوى إنفاذ إرادته التي وضعها منذ البداية.
ذلك أن الشخص الصادق في المشاركة والاستشارة والعمل الجماعي وترسيخ مبادئ الديمقراطية، لا يفعل ذلك ضمن شيوع لا يمكن قياسه وتتبعه، وإنما يفعله من خلال مؤسسات واضحة وفريق معروف، يجعل هذا الأمر ممكنًا، ويفتح الطريق لمشاركة الناس وفق معايير محددة، تجعل المتقدمين لأي منصب أو شاغر ملتزمين بالقدرات المطلوبة وبمعايير واضحة، وتجعل شفافية هذا الأمر ممكنة، والتحقق من العمل بشكل واضح، طريقه سهلٌ للجميع.
ولا أعتقد أيضًا أن ذلك بإمكانه الاستمرار طويلاً، ذلك أنه بعد فترة من الزمان سيضطر من يحاول أن يمارس الاستبداد من هذا النوع أن يتحالف مع بعض الأقوياء حوله، ليتمكن من آخرين، أو يحالف جماهير الضعفاء ممَّن تهمهم مصالحهم لتنفيذ رؤيته من أجل أن يحشد أصواتهم في مواجهة البقية، وبالتالي يعود الاستبداد لأصله بعد أن يمكّن نفسه بأساليب ملتوية ظاهرها (العمل الجماعي) وباطنها ((مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى)).
المدير العام | أحمد وديع العبسي