علي سندة |
لن أدخل في أنواع الاعتذار وفنونه ومفهوماته المتعددة ومواقفه إلى آخره ممَّا يتصل بالموضوع من بحث وتنظير كبيرين، إذ لطالما كُتِب عنه وأشبع بحثًا ونُصحًا، لِما له من أهمية في البناء المجتمعي، إنما سنتناوله بشكل مبسط مع لفتة سنوضحها هي أساس الاعتذار.
إن الناس حاليًا يرون الدين متعلقًا بالعبادات فقط (الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج، التوحيد) وهي معيار الصالح من الطالح فيما بينهم، والحقيقة أن العبادات أساسية ويقوم عليها الدين الإسلامي إنما ليست كل شيء، بل هي جزء مُكوِّن إلى جانب المعاملات التي تمثل الجزء الأكبر، وبمقارنة واحدة فقط يتبين لنا أن العبادات خاصة بالفرد وحده، فإن قصَّر العبد في عباداته لن يأتيه شخص آخره ويلومه أو يخاصمه على عدم أداء الصلوات أو دفع الزكاة مثلًا، ولن يخصم الحسنات المرصودة له أو يدفعها؛ لأن ذلك شأن خاص بين العبد وربه ولن يتضرر أو ينتفع بها أحد سواه وكذا باقي العبادات، بينما المعاملات تقوم على أساس متبادل بين الأفراد في المجتمع، وفيها تأثر وتأثير، وإن لم تتم بحق فثمَّة ظالم ومظلوم، كمعاملات البيع والشراء والغش.. إلخ، والإسلام فيه شريعة نظمت كل شيء.
من التفريق السابق نصل إلى الاعتذار الذي يدخل في صلب المعاملات، من منا لا يُخطئ في اليوم أثناء تعاملاته على كافة الصعد (العمل، العائلة ، الدراسة، وسائل التواصل..)؟ والسؤال هنا: من يعتذر عمَّا بدر منه من خطأ؟! ومن لم يعتذر ماذا يصنع في بنية المجتمع؟ ومن يعتذر ماذا يصنع فيها؟
الجواب بدهي فمن يعتذر يساعد في بناء المجتمع وتماسكه وديمومته بشكل صحيح، ومن لا يعتذر، ومرد ذلك لأسباب عدة منها (كالكِبر، والشعور بالضعف أمام الآخر إن اعتذر، ومكانته التي يعتقد أنها لا تسمح له بالاعتذار، والشعور أنه لا يخطئ وإن أخطأ فهو أبو فلان أكبر من أن يعتذر..)، فهو يساهم في هدم المجتمع لأنه بتعنته يولد الضغينة في نفوس من أساء لهم ولم يعتذر، وهؤلاء ربما يغيرون نظرتهم في التعاملات بناء على تصرف المُخطئ معهم الذي رفض الاعتذار، وبالتالي تنتشر العداوة والظلم بدل المحبة والحق.
من أين يتولد الاعتذار ليصبح ثقافة منتشرة؟ ببساطة من نقد الذات ومراجعتها، بل إننا من هذا المنطلق (نقد الذات) نستطيع تعميم الاعتذار ليكون مع الله أيضًا وليس فقط بين العبد والعبد، وهو من باب التوبة وشروطها، وحسبنا للتدليل على ذلك عندما سيدنا آدم راجع نفسه مع أمّنا حواء، فقال جل وعلا على لسانه: “قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” الأعراف 23، فأول الاعتذار اعتراف نابع من نقد الذات ومراجعتها لأجل التوبة.
بل إن ما فعله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع الصحابي (سواد) يوم غزوة بدر الكبرى درسٌ للبشرية في ثقافة الاعتذار ورد الحقوق، وذلك عندما طعنه، صلى الله عليه وسلم، في بطنه بالقدح عندما كان صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف، وقال له: (استوِ يا سواد) فقال: يا رسول الله أوجعتني، وطلب منه القود أي القصاص، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد، علمًا أن نية الصحابي (سواد) من كل القصة لمس جسد الرسول قبل بدء المعركة وتقبيله، بل إن الاعتذار الذي قدمه صلى الله عليه وسلم كان من قائد إلى جندي، فما أحوجنا اليوم إلى نقد ذواتنا ومراجعتها لنعتذر للآخرين ولله!
الاعتذار سلوك لا يظهر إلا إذا كان المرء قويًا ويعتقد أن نفسه ليست منزهة عن الخطأ، يراجع أفعاله وتصرفاته نهاية اليوم قبل أن يغفو لينام مرتاح البال، والاعتذار لا يكون إلا لاعتقاد وجود خطأ وليس مجاملة، وبالتالي يتطلب من المعتذر التنازل والاعتراف بالخطأ، ولا يتنازل إلا كل قوي بأخلاقه منطلقًا من نقد ذاته إرضاءً لله أولاً ثم لذاته.