الدكتور: عبد الكريم بكار
حين ينسى الإنسان خالقه، وبداية وجوده، وضعفه الشديد أمام عوادي الزمان، فإنَّه يصبح من اليسير عليه أن يغرق في شبرٍ من قوة، وأن يسير خلف المكتشفات العلمية، والمخترعات والصناعات، وأن يُفسر من خلالها كلَّ مسائل الحياة، حتى مسألة الروح وبداية الخلق! وحين يُغادر الإنسان كَّل الأُطر الثابتة، فإنَّه سيكون عاجزاً عن الإمساك بالكليات الكبرى التي تحدد مساره، لأنَّ المحك المرجعي آنذاك، سيكون عبارة عن بُنية فكرية – كونية، ما فتئت تتغير، وتتشكل وفق هيكل الحقيقة الذي تطرأ عليه تغيرات مستمرة، من جراء البحوث والكشوف والدراسات الجديدة، وبهذا لا تكون ثمَّة أصول يتحاكم إليها، وإنَّما بُنيات فكرية ومعرفية انتقائية وتاريخية متغيرة، ولدت في بيئات ذات خصوصية ثقافية معينة.
ومن العجيب أن يأمل الملحدون وأشباههم في أن تستطيع تلك البنيات تقديم تفسير شامل للكون والحياة، وتقديم أطر ومرتكزات صالحة لتقنين العلاقات بين البشر، وتحديد المطالب الأساسية للحياة والأحياء!! وذاك خطأ لا ريب فيه في المنطق الأساسي الذي وضعه الغرب في هذا الشأن…
التفاؤل المبالغ فيه الذي كان يعم الغرب في القرن التاسع عشر، نشأ من أنَّ الغرب لم يكن يعرف محدودية العلم الذي علق عليه كل آماله، وقد كان العلم آنذاك في أوله ولم يكن بالإمكان معرفة تلك المحدودية إلا بعد أن يبلغ العلم مداه، أو يكاد. وحين وصل العلماء إلى طريق مسدود ببحث كثير من المسائل، ساد في الأوساط العلمية شعور بأنَّ التفاؤل المفرط، هو أو خطوة في طريق التشاؤم والعبث، وانقطاع الرجاء…
بعد التفاؤل المفرط بإمكانية سيطرة الإنسان على الطبيعة، حلَّ الشعور بالتفاهة والانحسار، وقد عبر الوجوديون عن الحالة التي صار إليها الوجود الإنساني بأنَّها: عدم وموت وحصر وهمّ وضيق، وضياع للفرد في الجماعة، وثرثرة وغثيان وفراغ وعبث… والإنسان على حد تعبير(كامو): تناقض وسخف، ولا معقول، بلا غاية أو هدف، ومصيره الانتحار!
إنَّ عالمنا الإسلامي لم ولن يستطيع أن يفلت من روح التشاؤم التي ولدت في بلاد الغرب، وأخذت تنسل في كلِّ شبر في الأرض؛ ونظرة واحدة في معظم الدواوين الشعرية الحديثة، وفي الكتابات الحضارية عامة، بل في أحاديث مجالس السمر لدى العامة والخاصة كافية لتأكيد أنَّ الناس يشعرون أَّن أفضل أيام البشرية قد ولت، وأنَّ صنوفاً من الآلام والإخفاقات الهائلة تنتظر الأجيال القادمة.
إنَّ إعراض البشرية عن هدي الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-قد جعل التقدم العلمي يقترن بالمزيد من انتشار الفاحشة، والانحلال الأخلاقي وإدمان المخدرات وفشو الرشوة، والنهب المنظم…
وإنَّ الذين سيتفاءلون مع انتشار هذه الأوبئة لن يكونوا موضوعيين، وإنَّما سيكونون كمن اختار أن يغني بين القبور!
النصوص التي تدل على حدوث انهيارات إيمانية وخلقية واجتماعية في آخر الزمان كثيرة، لكن هناك أيضا نصوص تدل على أنَّ هناك ضمن سياق التراجع حركة مدّ وجزر، وكثيراً من ومضات الخير وإشراقات الصلاح؛ هذا بالإضافة إلى أنَّ المسلم مكلّف دائماً أن يفعل ما يستطيع، وأن يقدم أفضل ما لديه، مهما كان الوسط الذي يعيش فيه سيئاً وميؤوساً منه، والمسلمون الملتزمون يعرفون إلى هذه اللحظة طريق العودة، ويعرفون كيف يبعثون في الحياة الأمل والرجاء من جديد، لكن لابدَّ لذلك شيء من التضحية، ودفع الثمن الذي يجب أن يدفعه كل من يسبح ضد التيار، ويحاول إنقاذ سفينة مشرفة على الغرق؛ وكل الأثمان الباهظة ستكون قليلة حين يكون العوض هو الطمأنينة في الدنيا، والنجاة في الآخرة!
(العيش في الزمان الصعب)