في البحث عن أسباب الخلل في الثورة ثمة مقولات شاعت، بعضها يلوم أداء الثورة وبعضها الآخر يبرر لها تعثرها، ومع أن الوقائع قالت كلمتها إلا أن الجدل حولها لم ينقطع، بل مع مضي الوقت وعدم وجود آفاق للحل أو الحسم، استقرت النقاشات على نمط محدد لا يبدو أنه يتحرى جيداً إمكان نجاح الثورة أصلاً، فتقاطعت غالبية الآراء حول ما يحدث في سورية على أن المآل الذي وصلت إليه أسوأ مما كان يمكن تخيله مع انطلاقها، فيما لا تُخفي بعض الآراء يأسها من الثورة، ويذهب بعضها الآخر إلى القول بانتهائها عملياً، وإلى الإقرار تالياً بأن ما يجري الآن لا يمت بصلة إليها بمقدار ما يمثل صراعا للمصالح الخارجية والداخلية المعقدة.
انطوت الثورة في سورية على مفاجآت عدة أولها، عجز الطبقة السياسية السائدة عن إنتاج قيادة أو مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية، فحتى الآن لم تنجح في إنتاج كيان سياسي يعبر عن السوريين ويجمعهم من حوله، وافتقرت برنامجا يُجمع عليه كافة السوريين، وهذا يجسد تشرذم جماعات المعارضة العسكرية التي تعددت مشروعاتها على حساب المشروع الوطني، وهذا ما سمح للقوى التي لا علاقة لها بالثورة من ركوب ظهرها، فضلا عن الفجوة بينها وبين من يمثل الثورة سياسيا في الخارج الذي لم يفهم إلى الآن أن الزواج عن بُعد لا ينجب أطفالا!
إن الثورة تحدثت باسم الشعب كرد فعل مضاد ومواز في القوة للسلطة التي ماهت نفسها بالإرادة العامة للشعب بالقوة، وقد نشأ عن عملية التماهي هذه من طرفي الأزمة تحويل الشعب إلى متعالٍ سياسي، وباسم هذا المتعالي تم تأسيس وشرعنة أي عمل من أجل تحقيق أهداف الشعب. هنا تصبح الثورة العنيفة مساوية لاستبداد الأنظمة وطغيان السلطة، وهي الإشكالية التي وَسمت بداية الثورة الفرنسية وما تزال تَسمُ الثورة السورية إن صحَّ وصفها بالثورة حاليا.
أما مواقف الدول الخارجية فقد لعب الموقف الأميركي والغربي دوره المساند للرؤية الإسرائيلية بعدما أراحوا “ضميرهم السياسي” من خلال التعبير عن دعمهم للمعارضة بالتصريحات، بينما كانوا يسهمون في إطالة أمد الحرب لتحقيق أهداف كثيرة من بينها استنزاف إيران وحزب الله وروسيا، بينما كان الشعب السوري الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، فإطالة أمد الصراع كلفته خسائر بشرية فضلا عن المادية.
مع كل ذلك، فإن هذه الثورة فتحت تاريخا جديدا في المنطقة بغض النظر عن مآلاتها، ولنلاحظ في هذا السياق مثلا أن الثورة الفرنسية الأشهر عالميا فشلت أولا، إذ بدأت بغرض إنهاء الملكية لكنها انتهت إلى إمبراطورية الجنرال نابليون، بحيث احتاجت فرنسا إلى ثورة 1848، ثم إلى كومونة باريس 1871 (حكومة بلدية ثورية)، أي إلى نحو قرن لإحداث التغيير، مع ملاحظة استهدافها من الدول أو الإمبراطوريات المجاورة، لكن ما يلفت الانتباه أن هذه الثورة رغم فشلها استطاعت نقل إشعاعها إلى العالم، وصنعت التاريخ أكثر من سابقتها الثورة الأميركية (1776) التي نجحت، وذلك بحسب تعبير حنا أرندت في كتابه (في الثورة) وأريك هوبزباوم في كتابه (عصر الثورات).
إن الشعب السوري اليوم بات وحيدا بلا حلفاء، فأغلب دول العالم لا تقف إلى جانب السوريين، إلا بشكل إغاثي، أو عبر الكلام عن حلول سياسية بما يُرضي سياسة تدخلهم، وحتى الدول التي وقفت إلى جانبه تنسحب سرا وعلنا، لكنهم بالتأكيد لم يعودوا في وارد رعاية الثورة السورية أو دعمها.
نحن أمام واقع معقد مفاده أننا إزاء صراع مديد ومفتوح، فلا النظام ولا المعارضة باستطاعة أي منهما حسم الأمر، وسورية باتت ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، ووزن السوريين في حسم هذا الصراع بات أقل من السابق، في حين باتت اليد الطولى في إطالة أمد الصراع أو حسمه أو التحكم بنتائجه بيد الدول الكبرى، روسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية.