لا مفر من الرحيل، لم يعد في مكة مكان يأوي إليه المستضعفون والمعذبون، إن الطواغيت الظلمة يأبون إلا أن يستعبدوا أرواحنا وفكرنا بعد أن استغلوا موارد البلاد والعباد ..
إن السياط التي مزقت أجساد المساكين ياسر وسمية وبلال تُرغِم كل ذي لُب حكيم على الكفران بما يروج له طواغيت الظلام من أمثال أبو جهل وغيره ..
تسلل المهاجرون كُل من طريق، وعيون قريش لا تنام، إنها تبحث عن البذور الجديدة لتسحقها وتحيلها إلى رماد قبل أن تنمو وتترعرع وتزهر وتثمر، لكن عيون قريش زاغت، وكبُرت تلك البذور وأثمرت جيلاً أبى الخنوع والخضوع في وجه طغاة أعتى من سابقهم وأكثر ظلماً وأشد طغياناً، إنهم ورثة الأمويين، وأهل فسطاط المسلمين ..
سبعة أعوام من الصمود كفيلة بإيصال رسالة الانتصار لكل من أتته ريح الشك بمبادئ أعظم الثورات، فإن تهجير أهل فسطاط المسلمين وتعاظم البلاء واشتداد المصاب لن يزيد من جذوة إيماننا بأحقية مطالبنا إلا اشتعالاً يضيء الطريق لمن صدق وثبت، ويحفر أخاديداً من الثأر تُشابه تلك السُبل التي يمر بها أهلنا المهجرون من الجنوب إلى أنصارهم وأعوانهم وأهلهم في الشمال ..
التفت إلى مكة النظرة الأخيرة، وقال كلماته عليه أفضل الصلاة والتسليم: “ما أطيبك من بلد، وأحبّك إلىّ! ولولا أن قومك أخرجونى منكِ ما سكنتُ غيرك”
التهجير الذي اعتمدته أنظمة الظلام على مدى التاريخ، شق في أفئدة المهاجرين دروباً من الآلام، لكن الأمل الذي تجدد بفتح الحبيب مكة وعودته إلى أرض الرسالة، كلل أهل شامنا بغمامة الرضى و سقاهم غيثاً يربت على قلوبهم المنهكة أن أنتم الكرارون بإذن الله، وما هجرتكم و شدة وطأتها على أنفسكم إلا فجر يرمقُنا من بعيد على وعد الوصول إليه، فإن الوطن الذي حمله المهجرون قسراً في حنايا أفئدتهم و زوايا أرواحهم لم يكن رمالاً وجبالاً وتراباً وبيوتاً، إنه أكبر من ذلك بكثير، إنه معنى كبير .. قيم أصيلة تسودنا، بناء من الأفكار الخالدة نحملها بين نبضة القلب وخفقة الكبد، نمكِّن بها أرضاً لا تربطنا بها أغلال العبودية والمذلة، بل رباط الحرية و تحقيق الغاية الوجودية من توحيد ربِّ الأرباب، وتمكين دين الإسلام، لتعود قوافل المهاجرين والأنصار تنتزع الحق من صميم الباطل و تزرع الياسمين على أرض سُقيت حتى فاضت بدماء الثائرين، هذا هو السبيل، وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به، ومن المحال أن يكون العذاب الذي يلقاه المسلم من دلائل اليأس أو القنوط، بل هو الحق أن تجد في الألم والمعاناة سيراً على الطريق ودنواً من النصر وتحقيقاً لمأرب المسلمين من إقامة مجتمع إسلامي، على أسس صادقة وبوطن يدعم هذه الغاية ويؤيدها، فإن أدرك الإنسان طبيعة العذاب الذي يلقاه المسلم في طريقه لإقامةِ المجتمع الإسلامي علم أنه ليس في حقيقته عقباتٍ أو سدود تصد السالك أو المجاهد عن بلوغ الغاية كما قد يتوهمُ البعض، بل هو سلوك في الطريق الطبيعي الذي خطَّه الله سبحانه وتعالى بين المسلم والغاية التي أمره بالمسير إليها، فشمس ثورتنا لن تخسف من كبد سماء وطننا الحر، بل تزداد إشراقاً كلما داهمها الظلام و حاصرها الطغيان لتبقى في أعالي أرواحنا تُضيء، و تُضاء، فلا تأفلوا، إن الشام لا تحب الأفلين..