جاد الغيث |
الساعة السادسة والنصف وخمس دقائق مساء، أخرجت الموبايل من جيبي لألتقط صورة مستعينًا بالأضواء المنبعثة من قبعات أصحاب الخوذ البيضاء، كان المشهد مفزعًا لا يمكن تخيله، فقبل ساعات قليلة كان المكان مكتظًا بالناس ومليئًا بالحياة، لن ينسى السوريون ما حدث يوم الإثنين 11 شباط 2017، فكلما تقادم الزمن على المجزرة تكشفت قصص جديدة ربما يكون نشرها سببًا في لقاء طال غيابه، في ذلك اليوم كان الطيران الروسي قد قصف سوق الاتارب للمرة الثالثة فصار موحشًا مقفرًا إلا من أصوات الباحثين بين الأنقاض، ووجوه ملامحها تنقل أعلى درجة من درجات الأسف والحزن دخلت الشارع الطويل الذي تجمدت فيه برك الدم البشري المختلطة بماء المطر الذي انهمر بسخاء بعد أن اختفت الشمس خلف الغيوم الحزينة.
الوجوه العابرة تنظر بدهشة، كأن هذا المكان مدمر منذ ألف عام، وبين العابرين
العم (أبو ياسين) يحمل في يده كيس أسود فيه أشلاء بشرية، أصابع مع جزء من كف، قدم تبدو لطفل في العاشرة من عمره، قطعة جلد بشري عليها شعر ربما هي جزء من فخذ شاب في الثلاثين من عمره، أذن صغيرة فيها قرط ذهبي ربما لطفلة في الثامنة من عمرها، من يستطيع أن يعرف هذه الأشلاء لمن؟ ومن أين أتى أصحابها؟
العم (أبو ياسين) الذي قارب الستين من عمره يتفقد المكان، يدور في قلب الخراب لعله يسمع أنين رجل حي، أو بكاء طفل صغير! وكان هذا ما جرى حقًا.
صوت بكاء تحت زخات المطر بالقرب من بناء مهدم بكامله، كيف لم ينتبه الناس لهذا الرضيع، أمر يثير العجب! ولكن الآن ليس وقتًا مناسبًا لطرح الأسئلة، حمل الطفل بين يديه، ثيابه ملطخة بالدم، وهو يرتجف ويبكي، ربما كان في غيبوبة وقد صحا منها بفعل المطر الذي راح يغسل وجهه الصغير المدمى.
كيف لم ينتبه أحد لهذا الرضيع؟! راح يردد أبو ياسين في سره آيات قرآنية، ويعلو صوته بالتكبير والتسبيح.
في عتمة الليل اشتد بكاء الرضيع، ومن رحمة الله أن (فاطمة) ابنة العم أبو ياسين، كانت ترضع صغيرها (ليث) ذو الأشهر الخمسة، إنها تعيش في بيت والدها بعد استشهاد زوجها.
ومن دون عناء، وربما بسبب الجوع الشديد، التقم الرضيع ثدي (فاطمة) وراح يروي جوعه بعد أن فتح عينيه الزرقاوين وبانت على وجهه ملامح تشي بالعافية والأمان.
حتى اللحظة لم يطلق أحد اسمًا على الرضيع، ويبدو أنه في عمر قريب من عمر (ليث)، ربما أكبر بشهر واحد أو أقل من شهر.
في صباح اليوم التالي بدأ العم أبو ياسين جولته على المشافي والنقاط الطبية المحيطة ببلدة (الأتارب) للإبلاغ عن الرضيع، لربما يتعرف عليه أحد، أو يسأل عنه أحد أقاربه.
رافقت (فاطمة) والدها وهي تتمنى ألا يتعرف أحد على الرضيع الذي تحبه كأنه ابنها وراحت تناديه (غيث)!!
في المساء كان (غيث) في حضن (فاطمة) الأم الجديدة ينعم بالدفء والراحة بينما كان أبواه الحقيقيان في عالم آخر، إنهما شهيدان لم يُعرف اسمهما، ولم يرَ جسديهما، شهيدان جميلان في عالم بعيد كما هو حال مئات الآلاف من شهداء سورية بعضهم مات تحت التعذيب ودفن في مقابر جماعية، وبعض الشهداء دفنوا في قبور لها شاهدة حُفر عليها اسمهم وتاريخ استشهادهم، وكثير من الشهداء صاروا أشلاء مبعثرة احتوتها أكياس بلاستيكية سوداء أو بيضاء، وبعض الأشلاء طارت مع ذرات الهواء، أو دفنت بين الأنقاض.
(غيث) طفل الأنقاض بلغ اليوم عامين وثلاثة أشهر، يجلس في حضن (فاطمة) ويناديها أمي، ويركض خلف العم (أبو ياسين) ويناديه جدي، القصف شتت شمل عائلته الحقيقية، وجمعه مع عائلته الجديدة السعيدة بوجوده وكأنه ملاك هبط من السماء، فهل يجد غيث يومًا ما أقاربه؟ أم كلهم شهداء كحال والديه!