تقرير: عمر عرب
على أعتاب الموت، يعيش أهالي مدينة حلب المحررة حياتهم، تلك الحياة التي لم يعد في قاموسها شيء يسمى حكراً أو ممنوعاً عنهم، فالموت محدق بهم بشكل دائم لأسباب متعددة،
تارة نتيجة القصف المتنوع هو من أكثر الأسباب الشائعة، والتي باتت من المسلمات، وإن لم يفضِ القصف إلى الموت، فهو بالمقابل يسبب عاهة، إلا من ينجو بفضل الله ومنه عليه.
وتارة أخرى لانتشار أمراض كانت غالبيتها في طي النسيان، فهي إن لم تكن نهايتها الموت المحتم تزيد نسبة الألم والمعاناة لدى الناس، كالحصبة والطاعون واليرقان والكوليرا وشلل الأطفال إضافة إلى اللشمانيا وغيرها من الأمراض الجلدية الخطرة، جميعها كانت موجودة لكن بحالات شبه نادرة لا تتجاوز 5% من إجمالي عدد السكان، إلا أنَّها الآن عادت إلى الواجهة من جديد وبنسب متزايدة عمَّا كانت عليه.
“اليرقان” أو كما يعرف بالعامية “بأبو صفار” وهو حدوث اصفرار في الجسم وبياض في العينين.
تحصل حالة اليرقان عند حدوث خلل في وظائف الكبد؛ فلا يستطيع أن يتخلَّص من البيليروبين الموجود في الدم، فترتفع نسبته ويُصبح لون الجلد أصفر، وبالتالي يسبب ارتفاعا في حرارة الجسم والإحساس بالغثيان والإقياء وضعفا في بنية وقوة الجسم، وذلك الخلل له عدة أسباب أهمها: النظافة الشخصية والحالة النفسية للشخص، إضافة إلى عدة أمور أخرى تتبعها.
إلا أنَّه وللأسف انتشر في الفترة الأخيرة بين المدنيين، حيث وجد لنفسه بيئة محيطة تناسبه وتحتضنه خاصة أجساد الأطفال، فقد بلغت نسبة انتشاره التقريبية بين الأطفال ما بين 60 إلى 65 % وهي نسبة تعتبر صادمة مقارنة عمَّا كانت عليه سابقاً، أمَّا نسبة انتشاره التقريبية بين الكبار فهي 30%.
ويعتبر مرض اليرقان من الأمراض المُعدية والخطرة بشكل كبير إن لم يتم أخذ العلاج فوراً، فالتهاون في معالجته يؤثر سلباً على وظائف الكبد، وبالتالي يؤدي إلى تعطيلها، ويعود انتشار المرض حالياً إلى أسباب عدة أهمها فيما يخص الأطفال: حالتهم النفسية الصعبة التي يمرون بها، وحالات الخوف والرعب التي يعيشونها بشكل يومي، أمر يساهم بشكل ملفت إلى ظهوره لديهم وبشكل سريع، خاصة أنَّ حياتهم اليومية لم تعد كالسابق، وذلك من حيث تدهور النواحي الطبية والخدمية وحتى الجو البيئي المحيط بهم، وبشكل عام فقد ارتفع حجم الاضطرابات النفسية بنسبة 25 %عمَّا كانت عليه قبل بدء الحرب.
إنَّ انهيار القطاع الصحي في المناطق المحررة بفعل القصف الممنهج، وضعف إمكانيات القطاع البديل، وهجرة الأطباء جرَّاء مقتل واعتقال العديد منهم، ساهم بشكل أو بآخر بتدهور الوضع الصحي الذي انعكس بآثاره السلبية على الناس الذين تزيد معاناتهم يوماً بعد يوم.
هذا وشهدت عدة مناطق في حلب المحررة تعاني من تردي الأوضاع الصحية والخدمية ظهور عدد من الحالات المصابة بمرض اليرقان، كما أنَّه تمَّ اكتشاف إصابة الكثير من الحالات بذلك المرض في ريف حلب الجنوبي والشمالي خاصة، وذلك جراء موجة النزوح الكبيرة التي تشهدها تلك المناطق، واكتظاظ الناس ضمن مخيمات غير مؤهلة، وعيشهم في بيئة محفزة لانتقال مثل تلك الأمراض، كلُّ ذلك وسط قلة الأطباء والدواء الممكن تأمينه لتلك الحالات.
هذا وقد أفاد الطبيب (أحمد) والذي يعمل في مشفى ميداني في الريف الشمالي قائلاً: “معظم الحالات التي تأتي إلى المشفى تعاني من آلام في البطن والأمعاء، وأخرى من إصابات جلدية، وكلُّ ذلك بسبب حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي يعيشها الناس، إضافة إلى عدم وجود أماكن صرف صحي مناسبة، كما أنَّنا نعاني هنا من نقص الإمكانيات والأدوية التي يمكن أن تساعد وتغطي جميع الحالات التي تأتي إلينا.”
وأضاف الدكتور (محمود ساطو) وهو طبيب في مناطق حلب المحررة قائلاً: “انخفاض الوعي الصحي لدى الناس يساهم في انتشار المرض، وأيضاً كثرة النفايات التي لم يعد بالإمكان التخلص منها بشكل آمن ونظيف، ومرض اليرقان يتطلب العناية الشخصية بكل تفاصيلها، إضافة إلى حمية غذائية معينة تعتمد بمجملها على تناول الأطعمة التي تحتوي على السكريات والفيتامينات، وهناك حالات أخرى تكون بحاجة إلى أدوية معينة ،وكل حسب حالته ونسبة اليرقان الموجودة في جسمه، وفي ظل ما نعيشه يجب أن تكون هناك حملات توعية للناس سواء لهذا المرض أو غيره، وتعريفهم بطرق الوقاية والعلاج، لكن بالمقابل الناس بحاجة إلى دعم مادي ومعنوي في نفس الوقت، حيث إنَّ هناك كثيرون لا يملكون ثمن الدواء إن توفر أصلاً، و لا يملكون ثمن الأطعمة الواجب تناولها أثناء فترة العلاج.”
لقد تهدَّمت معظم المنشآت الطبية بنسبة 90% إلا أنَّ الكادر الطبي الموجود سواء في المناطق المحررة أو في أرياف حلب يحاول جهده في تأمين ما يمكن لإنقاذ جميع الحالات التي تتوافد على المراكز الميدانية المتوزعة.
هذه الأمراض تحاول أن تنهش في أجساد الناس إلا أنَّهم يملكون القوة والإرادة في تجاوزها وإن قلَّ الدعم، وقلَّت الإمكانيات الموجودة، وسيبقى الكادر الطبي الصامد مع الناس بمساعدتهم ولو بالدعم المعنوي والتوعية الصحية اللازمة، ولا بدَّ أن يلوح في الأفق ولو أمل صغير لديهم يجعلهم متمسكين بالحياة حتى النصر.