غسان دنو
في ريعان شبابه ولم يتجاوز العشرين، اشتدَّ عوده، وتربَّى على غزوة بدر، وذات الصواري، ومعركة حطين.
عاش سنواته الخمسة الماضية بعنفوان وحماس يفتقده الكثير من شباب اليوم، عمر أو كما يحلو لرفاقه مخاطبته (أبو حلب) خاض كلَّ مغامرات الثورة السلمية، ووثَّق بعدسة هاتفه كلَّ كبيرة وصغيرة من تظاهرات وقصف وحالات عدة…. لكنَّه لم يحمل السلاح قط، كنَّا دوماً نراه يطأطئ رأسه أمام المجاهدين ويحمرُّ خجلاً، نسأله ما بك؟ لا يجيب، ترى عينيه تفيضان دمعاً….
كان لعمر أبٌ حادُّ المزاج، يغلب على طبعه العناد، يمنعه من الالتحاق بصفوف الثوار خوفاً عليه من الموت، كان يخاطبه بقوله: “يا ولدي أنت بِكري، من لإخوتك وأمك من بعدي إذا متُّ بإحدى الغارات.” كان عمر يرضخ لهذا الحال رغما عنه، مدركاً أنَّ أباه يحول بينه وبين حبيبته الشهادة.
و في يوم من الأيام نادى المؤذن حي على الجهاد …..حي على الجهاد …
وضج الخبر بأنَّ الحيَّ في خطر، أين أحفاد أبي بكر و عمر؟ وقف في أرضه عمر شاخصا عينيه، قابضا بيديه اليمنى على سكين ورثها من جده، كان يحافظ عليها جيداً بدهنها بزيت خاص، ناديناه ما بك؟ أجاب: إنَّها فرصتي، منذ سنين وأنا أحدث نفسي بالأمر ويمنعني والدي ويقول: لم يحن دورك بعد، وعائلتك تحتاجك، الآن نحن في نفير عام لن يمنعني من الجنة شيء…. ولا حتى عائلتي، وتبسم ضاحكاً ومضى في طريقه مسرعاً، فقد أتى الخبر بأنَّهم يقتحمون الحي الشرقي وهو حي مطل على بيته وحيه.
مضت ساعات طوال، ليأتي الخبر مساءً بأنَّ أبا حلب استشهد في معركة ضارية لن ترى بعدها باقية …
استشهد أبو حلب في أولى معاركه، وفاح من جسده عطر من ذهب..
…
استشهد أبو حلب … ورأى محبوبته..
رمى كل طلقاته …. حتى سكين جده معطرة بدمه .
استشهد عمر …. وعانق الشهادة مبتغاه الذي أراده .
تاركاً خطابا بسيطا وراءه وُجد في جيبه على قصاصة صغيرة
أبي الغالي:
“من ولدك عمر: سامحني لأني لم آتي إلى قبرك لأودعك، فيقيني أنني بعد الموت مجتمع معك،
فبعد موتك لم يعد شيء ممنوع.
أمي العزيزة :
من فلذة كبدك عمر: اغفري لي تقصير في آخر فترة معك، وعدم زيارتك، لأننا لم نجد شيئا من جسدك الطاهر ندفنه، كنت أتوجه إلى السماء وأدعو ربي أن يجمعني قريباً معك …
إخوتي وأخواتي: إنَّكم صغار ولا أدري إن كنتم ستفهمون لمَ لم أزوركم، ربما أصبحتم مدركين لما يحدث لعظم ما مرَّ بنا، لكن الموت غيَّبكم عني، لقاؤنا الجنة إن شاء الله تعالى.
نعم لقد رحل عمر أبو حلب، لم يرضَ أن يتخلف عن درب رفاقه، ولم يرضَ إلا اللحاق بعائلته
التي محاها برميل غادر لم يدفن حينها إلا جثة والده، أما بقية أسرته فأشلاؤهم اختلطت بجيرانهم وأحجار جدرانهم.
هذه ليست قصة من سرد الخيال، هكذا كان الحال في حلب، من لم يغيبه القتل عن أرضه
هُجِّر بعد فترة، إنَّها مدينة طمست معالمها واختلطت بدماء من ضحوا من أجلها، إنَّها مدينة حلب، أرض الشهداء…