“استشهاد السائق وإصابتي وزميلتي إثر سقوط برميل بجانبنا كان نقطة تحول جذرية في حياتي المهنية، حينها تركت عملي في مؤسسة (جيل القرآن) بسبب إصابتي، وبعد أن تعافيت عدت إلى عملي بعزيمة أكبر وأنا على يقين بأنَّه لا يضيع حق ورائه مطالب” بهذه العبارات بدأت (عبير الفارس) حديثها لحبر عن تجربتها في الدفاع عن حقوق المرأة والطفل.
“عبير الفارس” سيدة أربعينية مثال للمرأة الناجحة والناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة والطفل، فهي تعمل على تدريب وتأهيل كوادر نسائية لتمكين المرأة في مجتمعها لتحصل على كافة حقوقها هي وأسرتها.
يزداد استهداف النساء في مناطق النزاعات تزامنا مع تزايد العنف والاضطهاد، حيث يتم استخدام البشر كأداة للحرب ووقودًا لها من قبل الأطراف المتنازعة، فترتفع نسبة الاتجار بهم، ويُستخدم العنف النفسي والجسدي، ويُجنّدُ الأطفال، وتُزَوّجُ القاصرات، إلا أنَّ المدافعات عن حقوق الإنسان يعملنَ بلا كلل أو ملل ويسعين لخدمته.
وعلى ضوء تزايد تلك الانتهاكات ضد حقوق السوريين، انتقلت “عبير” من تدريس مادتي الشريعة واللغة العربية إلى العمل للدفاع عن حقوق المرأة والطفل، فمن حقهم أن يتمتعوا بالحماية والرعاية الكاملة ليتمكنوا من العيش بسلام في بيئة يسودها الحرية والكرامة إن لم يسُدْها الأمان، وتركز عبير في عملها على الأطفال الأيتام وأمهاتهم في تقديم الدعم النفسي والجسدي.
عملت “عبير” قبل الثورة بتدريس مادة اللغة العربية والإسلامية إضافة لإشرافها على بعض معاهد تحفيظ القرآن والعلوم الشرعية، ثم انتقلت من التدريس إلى الإدارة وتأهيل المعلمين في مجال القراءة العربية السليمة مع بدايات الثورة.
وما زاد عبير إصرارًا على متابعة عملها هي قصة روتها عن الخالة “أمون” الامرأة المسنة التي تجاوزت الستين من عمرها من حي الفردوس في حلب، فقد استطاعت أمون بعزيمتها وهمتها العالية على متابعة الحياة أن تتحدى الصعوبات التي واجهتها قبل حصار حلب، فالخالة أمون فقدت منزلها جراء القصف من قبل قوات النظام على الأحياء، ثم خلال الحصار فقدت اثنين من أولادها، وما أدهشها أنَّه بعد خروج المحاصرين من حلب التقت بها مع ابنها المعاق، وسألتها عن حالها فتفاجأت بأنَّها تابعت تعلمها، فحفظت القرآن وهي تعطي الحقن الدوائية للمرضى كوسيلة عيش لها ولباقي أفراد أسرتها، إنَّها كالسنديانة في صمودها، فهي لم تسمح للحرب أن تنل سوى من ملامحها.
كانت إدارة مشروع الدعم النفسي من أولويات عمل عبير في حلب عن طريق تأهيل وتدريب كادر مؤلف من ستين داعما وداعمة توزعوا على خمس وثلاثين مدرسة في أحياء حلب، وذلك بهدف دمج الدعم النفسي بالتعليم نظرًا لما عانى منه الأطفال من وضع نفسي سيء بسبب ما مروا به خلال الحرب التي سلبت منهم أحلامهم ومستقبلهم وأهلهم أو أحد أعضائهم.
تذكر “عبير” لحبر أنَّها شعرت بإنجاز عمل كبير عندما استطاعت إقناع طفلة بالالتحاق بـ “مراكز طفولتي” التي تعنى بشؤون الأطفال، كانت الطفلة تراقب من أعلى درج المركز الأطفال بحزن وتخاف من أن تثير ساقها المبتورة سخريتهم، فهي لم تعد مثلهم بعد أن فقدت والدتها وساقها بقصف على منزلها من قبل قوات النظام، وكانت ترفض بشكل مستمر أن تشاركهم التعلم واللعب، إلا أنَّها تجاوزت محنتها وأصبحت عضوة دائمة في المركز.
في عام 2013 انطلقت للعمل في مؤسسة مسرات للرعاية الإنسانية والتنمية كرئيسة لقسم التطوير والتأهيل والتدريب، المؤسسة تركز على تعليم نساء الشهداء القراءة والكتابة وبعض الأمور الشرعية، لتنتقل بعدها إلى قسم التنمية المجتمعية كمنسقة حماية في الداخل السوري بهدف تمكين المرأة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ورفع مستوى وعيها من خلال دورات التوعية الأسرية والمجتمعية.
مؤخرًا تشرف “عبير” على مراكز “قوارير” في الداخل السوري التي تستهدف قضايا المرأة كونها نواة أساسية في الأسرة والمجتمع وقضايا الطفل الذي يعتبر أولى ضحايا الحرب، أبرز تلك القضايا محو الأمية والأنشطة المهنية (قص الشعر والتسريحات، والخياطة، وحياكة الصوف، والتمريض، وتعليم اللغة الإنكليزية، إضافة لجلسات الدعم النفسي وإدارة الحالة) فكلها تساعد النساء على كيفية التعامل في حلِّ مشاكلهنَّ الأسرية وتنقلهنَّ من مستهلكات إلى منتجات.
أمَّا عن حملات التوعية فرأت “عبير” أنَّ من واجبها أن تدافع عن حق المرأة والطفل في الحياة وحماية أنفسهم من مخلفات الحرب والاقتصاد المنزلي خاصة وأن النظام السوري يتبع سياسة التجويع مع المدنيين وقت حصارهم، كما أنَّ للمرأة الحق في أن تتعلم كيفية التعامل مع زوجها وأطفالها وبعض المشاكل السلوكية كالتبول اللاإرادي والتأتأة فهو أيضًا له الحق في تأمين جو أسري سعيد وآمن والحماية بكافة أشكالها.
تتغير طبيعة عمل “عبير” الذي يصبُّ جميعه في الدفاع عن حقوق المرأة والطفل خاصة حقهما في التعليم، فتُدرب وتُؤهل معلمين ومعلمات ليتمكنوا من التعامل مع الأطفال، كذلك تأهيل مدربات في كيفية التعامل مع المرأة في ظل العنف القائم على النوع الاجتماعي ومهارات التواصل والاقناع والإسعاف النفسي الأولي، إلا أنَّ المجتمع الدولي وبناء على القرار ” 1325″ الذي منح المرأة المشاركة في العملية السياسية دفع “عبير” للتوجه على تدريب وتمكين المرأة سياسيًا لتكون حجر الأساس جنبًا إلى جنب في عملية السلام مع الرجل، وتشكيل مؤسسات حكومية تنقلها نقلة نوعية من القضية الاجتماعية إلى القضية السياسية فتسهم في العمل على بناء سورية الجديدة.
لم تتمكن العادات والتقاليد ولا الفصائل المتشددة أن تقف عائقا أمام رحلة “عبير” في الدفاع عن حقوق المرأة والطفل من صعوبة التنقل من منطقة لأخرى بدون محرم، والتنسيق بين تربية الأولاد والعمل والأعمال المنزلية.
يعمل المجتمع الدولي على توفير المزيد من الحماية للنساء المدافعات عن حقوق الإنسان في سورية من أجل العمل على معالجة الثغرات والعقبات التي يواجهها المجتمع لجعل هذا العالم مكانا أكثر أمانا للدفاع عن حقوق الانسان والتمتع بحقوقهن، وذلك من خلال:
أولا: تقييم آليات الحماية الدولية.
ثانيا: تحديد الثغرات في التأثير والحماية.
ثالثا: العمل على اتخاذ تدابير وقائية لضمان ديمومة الحماية.
رابعا: التحرك في مرحلة قبل الانتهاك بدلا من التحرك بعد الانتهاك (قبل فوات الأوان)
خامسا: تمكين النساء المدافعات عن حقوق الانسان للقيام بأنشطتهن المشروعة في الدفاع عنها في سبيل تحقيق العدالة والحرية والمساواة.
في سورية وقفت كل المنظمات الحقوقية عاجزة أمام إيجاد حل للسوريين، بل وجعلت من قصص انتهاكات النظام وميليشياته لحقوقهم أول عناوين الصباح وآخر حصاد نشرات المساء، فإذا تخلى المدافعون والمدافعات عن الأبرياء الذين اغتالت الحرب كافة حقوقهم وانتزعت كرامتهم وسلبت أبناءهم وبيوتهم، فإنَّهم حكموا عليهم وعلى أنفسهم بمواجهة الموت لامحالة.
لذلك “هي مدافعة” عن زنزانات تئن بصرخات مزقت قيود الاستبداد، وأطفال احتضنتهم الشوارع، وعجائز باتت الخيام الممزقة مأوى لهم، وعائلات دفنت بأكملها تحت ركام منزلها، هي تدافع عن حق من فقد والده أو أحد أعضاء جسده، وعن معتقدات دُنست، وممتلكات سُلبت، وجواز سفر وهوية سُرقت، هي تدافع عن أسيادٍ أصبحوا عبيدًا.
عبير الفارس ” مدافعة” حالها كحال كثير من النساء داخل سورية، تعيد تجميع ولملمة ما بقي للسوريين من حقوق بعيدًا عن صخب مؤتمرات ومؤامرات البلدان المتصارعة على مصالحها فيه.