رفاه العياش
أيّها العابثُ في بلادِ الغير، إيّاك أن تنسى وأنت تمارسُ اغترابك أنك مواطنٌ من الدرجةِ الثانية، وإن نسيتَ فسوف أذكّرك:
حين تمرض وتذهب إلى إحدى المستشفيات الحكومية ويركلكَ موظفٌ إلى آخر ككرةٍ يلعبون بها، وبعد أن يَملُّوك يحددون لك موعداً بعد عدة شهور ليرتاحوا من إلحاح طلبك ورؤية وجهك العبوس كل يوم.. ويا ليتهم لبسوا قناع الإنسانية برهةً من الزمن، واطّلعوا على قلبك المثخن بالجراح، ورأوا ما فيه من وجع، لجهّزوا لك قسم أورام القلب بأسره، واستدعوا لك طاقماً من أشهر الأطباء قبل أن يُعاينوا جسدك المريض!!
وبعد انقضاء الشهور المحددة تراهم يجمعون أنك بحاجة إلى عملٍ جراحيّ، لكن عليك أن تعذرهم فليس لديهم سرير فارغ لاستقبال مرضك، قبل أن تحزن فكّر كيف سوّلت لك نفسك أن تأخذ دورَ مواطنٍ من الدرجة الأولى!! حقاً إنه من المُضحك المُبكي..
وكأنك تحتاج سريرهم لتأخذَ قسطاً من الراحة عليه أو قيلولةً بعد حفلِ شواءٍ لروحكَ المُصابةِ بالوهمِ والوهنِ على شرف اغترابك المَقيت، وقتها ما بيدك من حيلةٍ سوى أن تُسكِّن أوجاعك ببعض الحبوب التي قصم ظهرك توفير ثمنها، وتُمنِّي نفسك بالعودة ذات يوم وإجراء العملية في بلادك، فتطيبُ لك الفكرة، ويرقصُ قلبك فرحاً لها، وتجزم أنك وقتها ستتعافى ولن تحتاجَ عملاً جراحياً، فقط نسمات عليلة من بلادك تُشفي ما أصاب قلبك وروحك وجسدك من علّة.
أو حين تذهب لتبحثَ عن عمل حاملاً معك بكلِّ فخرٍ شهاداتك الجامعية التي لن يقيموا لها أهمية حين تعترف بجُرمك أنك سوريّ الجنسية، فترتطمُ أحلامك بقدميك، تتعثَّر وتحبس أنفاسك وربما دموعك وتتذكّر أنك مواطنٌ من الدرجة الثانية..
تمهّل قليلاً ولا تيأس، حاول مرةً أخرى لربما يحالفك بعض الحظ، أو لعلك ذو حظٍّ عظيم هذه المرة وتوظّفك إحدى الجهات بعد موشّحاتٍ من التعاطف مع بلادك والرأفة لحالك دون أن تلمحَ على وجهك الذي يحاول جاهداً بكل ما أُوتي من كبرياء أن يُخفي وجعه ، فتمنحك شرف العمل لديهم وما هي إلا بضعة أيام ٍ أو شهور حتى يأتي ابن البلد ليأخذ مكانه الذي انتزعتَه منه أو ملأتَ فراغه بعض الوقت وانتهى الأمر، عندها ما عليك إلا أن ترتّب َ أوراق خيبتك في حقيبة بؤسك وتنصرف، فلا شأنَ لهم بعائلةٍ تُعيلها أو أطفالٍ تُربيهم لا يهمّهم كل ذلك، المهم فقط أن تحمد الله على الغلاء وتدفع ما يتوجب عليك دفعه لتبقى على أرضهم وبينهم، أما عملك فليس شأنهم، ولا تنسى أن تشرب منقوع شهاداتك وتُكبّر على حائطٍ يأويك شهادة اغترابك .
وفي طريق عودتك من فرصة خيبتك تتذكر طفلك ذاك الذي وعدتَهُ بقرطاسيةٍ وحقيبةٍ مدرسية، عليك أن تُغيّر له حكاية ما قبلَ النومِ، وتختار حكاية أخرى أقرب لواقعك البائس وأشبه بخيالكَ الحالِم، فلا تُخبره بعد اليومِ عن المدرسة التي ستُسجّله فيها كي لا يحلم ويُسرف في حلمه، وتمرُّ الأيامُ كلمحِ البصر، وإذ بالمدارسِ تفتحُ أبوابها في وجهِ الجميع، وتُغلق في وجهه ووجه من اقترفَ الاغترابَ معه، عندها سترجُمك أحلامَه وتصفعكَ نظراته.
دعهُ يحلم، لكن بأحلامٍ بعيدةِ المدى قد تتحقق في جيله أو في أجيال ستَعقِبه كحلمِ العودةِ والمدرسة التي تعلَّمت َأنت بها، ربما ستروقهُ الفكرة أكثر ويتخدّر لديه الأمل فيلهو بلعبة صغيرة وتُغريه بقطعةِ حلوى وورقةٍ وقلم ليرسمَ عليها طائرةً وعلَم.
ثم إياك أن تنسى أنك مواطنٌ من الدرجةِ الثانية، محَت سجلاتُ الوطن اسمه وتصدّقوا عليه بأوراق اغترابٍ هو فيها مجرّد رقم … وذاك هو منتهى الألم.
وإن كان تذكُّرك لا ينفع فدعكَ منه واعذرني عمّا سبق، وحاول أن تنسى أنك مواطنٌ أصلا لتهنأ بعض الشيء في مقامك، فأنت مجرَّد غريبٍ، ولا شيء يليقُ بك سوى غربتك.