يبرز بشكل مستفزّ خبر تنظيم حفلتين لأوركسترا ماريينسكي الروسية في قلعة تدمر الأثرية السورية، بين أخبار أخرى ترسلها وكالات الأنباء العالمية عن الحرب الهمجية في سورية.
الحفلتان نظمتا بالتزامن مع عيد الشهداء في سورية، وأي شهداء؟ فغالبية الشعب السوري اليوم بمثابة شــهداء، ســـواء أكانوا نازحين يعيشون في ذلّ لم يشهدوه في تاريخ البلاد أم أمواتاً يدفنون جماعات جماعات أو يأكلهم الدود ولا يستطيع أحد دفنهم، أو يدفنون في البيوت والحدائق من دون أي جنازات، أو يموتون في السجون والمعتقلات… عن أي شهداء يتحدثون؟ وفي أي عيد يحتفلون؟
الحفلتان تتزامنان أيضاً مع عيد النصر على النازية في روسيا! وهل على السوريين المشردين والذين قتلوا أحياء، وبلادهم ترزح تحت احتلالات بالجملة وتحت دمار شامل، أن يحتفلوا؟ وبماذا يحتفلون؟ بعيد النصر على النازية؟ وفي روسيا؟ ولكن ما الذي يرتكبه النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون، أليست مجازر أفظع من التي ارتكبتها النازية؟ أم أن القيصر فلاديمير بوتين يعتبر أن هذا الحدث «الإنساني الاستثنائي» هو احتفال بنصره على الشعب السوري وذبحه وتدمير بلاده؟ أي إنسانية تلك التي يُقصف فيها البشر بالجملة كأنهم حشرات، وتدمّر الآثار والمباني وتحرق الأوطان والذكريات وتمحى المعالم المدينية عن بكرة أبيها باسم محاربة الإرهاب؟ أليس ما يرتكبه النظام وحلفاؤه إرهاباً؟ أم أنه فيلم رعب متخيّل أخرجه مبدع سريالي؟ أي إنسانية وأي موسيقى قد تُنسي الشعب السوري مأساته؟ ألا تكفيه موسيقى المدافع والصواريخ والسيوف والبراميل؟ تلك هي موسيقى الموت التي زرعت في ذاكرة السوريين الجماعية التي لن يقدروا على نسيانها ما عاشوا. تلك الموسيقى التي تئنّ في نفوسهم بحرقة وظلم، وحدها التي ستجرّهم على خيال واسع من الرعب النفسي الذي قد لا تشفيه مدارس علم النفس كلها ولا مهدئات الأعصاب. رعب قد لا يتخلّصون منه طالما هم على قيد الحياة…
حفلتان فعلاً مستفزتان، نقلتا مباشرة عبر التلفزيون الروسي، بالتزامن مع مجازر في مخيم للنازحين في ريف إدلب قرب تركيا بعد غارات عنيفة لم يعرف إذا ما كانت روسية أو سورية، وبالتزامن مع إلقاء مروحيات النظام «براميل متفجرة» على ريف حلب، وبعد مجازر في مدينة حلب، لم تكد تهدأ قبل الاتفاق الأميركي الروسي الأخير…
حفلتان تحت عنوان «صلاة من أجل تدمر. الموسيقى تحيي الجدران العتيقة»، عزفت خلالهما مقطوعات لباخ وبروكوفييف وغيرها أمام حوالى 400 متفرج كان لافتاً أنهم «كُلّفوا» شرعياً وعسكرياً بالحضور، خصوصاً هؤلاء العساكر الروس ببذلاتهم العسكرية. أي صلاة يعزفون فيها موسيقى عمالقة الفن الكلاسيكي، فلو عرف باخ أن موسيقاه ستعزف فوق جثث الناس ومآسيهم لما كان ألّف أي نوتة موسيقية! ثم عن أي تدمر يتحدثون؟ وعن أي تحرير؟ ماذا تبقى من تدمر؟ وهل كانت قبل الثورة مدينة تشبه دمشق وحلب، أم كانت مهملة ومحرومة من الإنماء وتشبه المدن المهجورة؟ تلك التدمر التي قضى تنظيم «داعش» على كثير من معالم قلعتها، صارت مهجورة، وأكمل الروس بغاراتهم على ما تبقى منها بحجة الحرب على الإرهاب. فالطيران الروسي في حملة «تحرير تدمر من داعش»، استهدف، وفق وكالة الأناضول، «قلعة مدينة تدمر، ما تسبب بانهيار جزء كبير من سورها، وتدمير قسم من بنائها، إلى جانب استهداف الطائرات ما تبقى من آثار في المدينة لم تطاولها يد داعش». تلك الحملة «البطولية» التي بثّت قناة «سكاي نيوز» البريطانية وثائق سرية بشأنها حصلت عليها من أحد العناصر المنشقين عن تنظيم «داعش»، تثبت التعاون بين التنظيم والنظام الـــسوري، وأظهرت تنسيقاً كاملاً بينهما لاستعادة قوات الأسد للمدينة من التنظيم المتطرف. وتقول إحدى الوثائق إن عملية استعادة النظام لتدمر «كانت جزءاً من اتفاق سري تم الترتيب له مسبقاً، ويسمح بنقل «داعش» أسلحته الثقيلة من المدينة قبل الانسحاب المتفق عليه».
وقال معد التقرير في «سكاي نيوز» ستيوارت رامزي، إنه سأل أحد المنشقين عن التنظيم، عما إذا كان «داعش» ينسق تحركاته بشكل مباشر مع القوات الحكومية، أو حتى الروسية، فأجاب المنشق بكلمة واحدة «بالتأكيد».
انتقاد بريطاني
انتقد وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند تنظيم الحفلة الموسيقية، معتبراً أنها محاولة «للفت الانتباه عن المعاناة المتواصلة لملايين السوريين (…) ومحاولة تنم عن ذوق سيئ للفت الانتباه عن المعاناة المتواصلة لملايين السوريين». وأضاف أن «هذا يدل على أن لا حدود لما يمكن أن ينحدر إليه النظام»، مشيراً إلى أنه «حان الوقت ليقول الذين لديهم تأثير على (الرئيس السوري بشار) الأسد كفى»، في إشارة إلى روسيا حليفة دمشق.
وفاليري غيرغييف قائد أوركسترا يحظى بشهرة عالمية ويدير مسرح مارينسكي منذ 1996. وقد أحيا حفلات في مواقع دمرتها حروب أو كوارث طبيعية.
وأحيت فرقته في 2008 حفلة أمام المباني الحكومية المدمرة في تسخينفالي عاصمة أوسيتيا الجنوبية، الجمهورية الجورجية الانفصالية الموالية لروسيا، بعيد حرب خاطفة بين روسيا وجورجيا للسيطرة على هذه المنطقة.
وفي 2012، قاد حفلة في طوكيو تكريماً لذكرى ضحايا فوكوشيما النووية في 2011. كما نظم حفلات عبر العالم لجمع أموال من أجل ضحايا عملية احتجاز الرهائن في إحدى مدارس بيسلان في القوقاز الروسي، انتهت بمقتل أكثر من 330 شخصا بينهم 186 طفلاً.
المصدر : صحيفة الحياة