منذ أن سحب نظام الأسد قبضته الأمنية والعسكرية من مناطق الجزيرة السورية عام 2012 سارعت ميليشيا الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الإرهابيتين إلى ملء الفراغ العسكري، وفرضتا سيطرتهما على مناطق الشمال السوري بكانتونات وبقع جغرافية سرعان ما توسعت خارج بيئتها الحاضنة بدعم غربي لتعلن عن كيان مصطنع بفلسفة عرقية وعنصرية لا تنتمي للنسيج السوري، تتقنع بمبادئ غربية سياسياً واجتماعياً وجغرافياً بما يعرف بروج أوفا
ولايزال هذا الكيان محل شدٍّ وجذبٍ بين القوى الكبرى على الساحة السورية، لما يملكه من قوة بشرية وقدرة تنظيمية تمكنه من تحقيق أهداف حلفائه، وهو ما دفع الولايات المتحدة لإبرام اتفاقات دعم وتسليح مع هذه الميليشيات باعتبارها حليف تكتيكي في محاربة تنظيم داعش مقابل وعود وضمانات سرية تتجلى بتقديم دعم عسكري وسياسي لإقامة إقليم كردي، في حين لم يكشف عن هذه التفاهمات أي من الأطراف بشكل علني، لكن مجريات ومعطيات أرض الواقع تتجه بشده نحو هذا المنحى.
إنَّ تسهيل الولايات المتحدة والدول الغربية الطريق للميليشيات الكردية لانطلاق واقعية لقيام دولة كردية لم تتجاوز فيه مستوى الأحلام، إلا أنَّها جعلتها أحلام يقظة، والانفصاليون الكرد يعرفون هذه الحقيقة، لكنَّها السبيل الوحيد لهم، فدروس التاريخ تخبرهم بغدر هذه القوى ويصدق عليهم الآن مثل من لدغته أفعى سابقاً يخاف قطعة الحبل حاضراً.
ولذلك تسعى “قيادات قنديل” إلى توزيع خدمة الارتزاق بين الدول الكبرى، وهو ما تفعله مع القوات الروسية باعتبارها الفاعل الرئيس على الساحة السورية و الحذاء القابع على رأس النظام السوري لانتزاع أي اعتراف أو تنفيذ أي أتفاق يخص كيانهم المنشود، كما أنَّ هذه الميليشيات تعي جيداً قوة السطوة الروسية في مواجهة تركيا العدو التاريخي للإمبراطورية الروسية، وهو ما تهدف له موسكو من خلال توظيفها لحراس مرتزقة على سياج مزرعتها الجديدة، حسب متطلبات ميزان القوى وتفاعلات الساحة الإقليمية، وهو ما تٌرجم حرفياً في تل رفعت من جهة الداعم الروسي، و ما وصل لأيدي هذه الميليشيات من أسلحة متطورة منها مضادات جوية روسية في رسالة واضحة لتهديدات أنقرة للجيب العنصري في عفرين.
غير أنَّ الذاكرة التاريخية لأدبيات ومفاهيم هذه الميليشيات تعجُّ بصور الخذلان التي رسمتها سياسة ستالين مع الكرد عندما شردهم في صحاري كازخستان لسحق مطالبهم بحكم كردي في تلك الحقبة. وتزداد هذه الصور قتامة مع ارتفاع مؤشرات التقارب الاقتصادي والسياسي بين تركيا وروسيا، ولذلك فتحت هذه الميليشيات قنوات ديبلوماسية مع نظام طهران والأسد، وإن كانت هذه القنوات وعرة بالإرث التاريخي الدامي بين النظامين السوري والإيراني والمظلومية الكردية، ولا يخفى على الكرد أنَّ النظامين ما يزالان يرفضان أي وجود كردي كدولة.
غير أنَّ مصالح جيوسياسية كثيرة باتت تجمعهما أكثر من خلافات تاريخية تفرقهما، فحياد الأكراد في بداية الثورة السورية خفف إلى حدٍّ ما من الضغط الشعبي و الاجتماعي على منظومة الأسد الاستبدادية وكان ذلك طعنة في ظهر الثورة تساوي بشدتها طعنة داعش، وقد ردَّ الأسد الجميل بمنح الجنسية السورية لألوف الأكراد، كما أنَّ العِداء العلني المشترك لتركيا من أهم قواسم الطرفين، و إن كان خفياً من الجانب الإيراني الذي يعمل على مداعبة الأكراد بالتصريحات السياسية في كل من العراق و سورية بغية الحفاظ على مكتسبه المهم هو الطريق الواصل بين طهران ودمشق الذي تشرف على معظمه هذه الميليشيات.
ستبقى احتمالات إخماد جذوة هذا التطرف العرقي مرهونة بتفاهمات الدول الإقليمية والكبرى، ونستطيع التنبؤ بنتائجه من قراءات التاريخ التي لفظت قيام هذا الكيان في مراحل تاريخية كثيرة لغياب وشذوذ مقوماته السياسية والثقافية والفكرية في المنطقة.