راغد معضماني |
دائماً ما ندركُ الأشياءَ من حولنا على أنّها موجودةٌ إذا ما نظرنا إليها، إذ إنَّ النّظرَ يكفي لإثباتِ حقيقةِ وجودِها، فهو أحدُ الحواسِ الخمسةِ التي تساعدُ على الإدراكِ، وهذه ليست حقيقةً مطلقةً حيثُ إنَّ ما نراهُ يمكن أن يكونَ محضَ وهمٍ فحسب.
في عالمِ الأشياءِ على سبيلِ المثالِ لا الحصر، النّظرُ إلى جبلٍ تقفُ أمامهُ يؤكِّدُ حقيقةَ وجودهِ والقرب منهُ حدَّ اللّمسِ يؤكِّدُ هذهِ الحقيقةَ صوبَ اليقينِ المنافي للشكّ، أمّا في عالمِ الأفكارِ؛ النّظرُ في أنَّ الإنسانَ شادَ أو له القدرةُ على أن يشيدَ هذا الجبل لَهُوَ وهمٌ ينافي حقيقةً مطلقةً.
أليسَ منَ المنصفِ أن ندخُلَ في حَيّزِ الوهمِ أيضاً عندما نفكِّرُ بمثلِ هذهِ الطريقة؟
ماذا إن كانت حقيقةُ وجودنا وهماً أصلاً؟!
يقولُ الفيسلوف الفرنسيّ رينيه ديكارت الذي اعتمدَ على العقلِ في بناءِ فلسفتهِ ” أنا أشكّ، إذاً أنا أفكّر، إذاً أنا موجود ” إن مذهب الشكّ عند ديكارت المعروف بالشكّ الديكارتي دفعهُ للمواظبةِ على معرفةِ الحقيقةِ، إذ يقولُ محاولاً تنميةَ نظريّته: ” المتّهمُ عندي مذنبٌ حتّى تثبتَ براءتهُ “.
عودةً إلى السؤالِ عن حقيقةِ وجودنا ومحاولةً لربطِ القولين السابقين للفيلسوف رينيه ديكارت، نُلاحِظُ حقيقةً ثابتةً وهي” كُل من يعتقد بوجودهِ متّهمٌ بالذّنبِ حتّى تثبتَ براءتهُ ” إذا صرفنا ذواتنا للتفكيرِ ثمَّ القولِ (إنّما أنا إنسانٌ اعتقدَ وجودهِ، اتّهمَ نفسهُ بالذنبِ، يريدُ أن تثبتَ براءتهُ)، وقد صرفتُ تفكيري لهذا واعتقدتُها حقيقةً ثابتةً سأنقلها بصورةٍ موضوعيّةٍ تقودكَ لاتّهامِ نفسكَ بالذّنبِ أيضاً.
عندَ استجابتي القليلة والمُقصّرة لأمرِ اللهِ تعالى بالنّظرِ إلى الكونِ من حولنا والتفكّرِ في الموجودات، رأيتُ نفسي موجوداً، كلّ الآيات القرءانيّة التي تُوجبُ على الفردِ منّا النظرَ والتفكرَ في خلقِ اللهِ؛ أنستني أنّني من خلقِ الله، وأنّ واجباً علَيَّ النّظرُ في ذاتي، والتفكّرُ في أعماقي، إذ كيفَ لي أن أفهمَ الموجوداتَ من حولي وأنا لا أفهمني؟ هنا كنتُ على شفا جرفٍ هاوٍ كادَ أن يسلبني منّي فعدلتُ إلى ذاتي لأنظُرَ في حقيقةِ أمري.
لهذا الكون تقلّباتٌ مناخيّةٌ كثيرة، إذ إنّها تمنعكَ من الخروجِ والسّفرِ إن كان المناخُ عاصفاً ماطراً، حُكمُ المناخِ علينا في تقلّباتهِ أن يُتيحَ لنا ويَمنعَ عنّا، كذلك هناكَ ما يُعرفُ بالتقلّباتِ الفكريّة التي لها عوامل تدفعكَ بقوّةً نحو الأمامِ أو أن تدقَّ في ذاتكَ مسماراً يكبّلها بالصُّمِّ والبُكمِ والعُمي.. بلا سوطٍ.
وبِلا أدنى شكٍّ فإنَّ اتّهامَ الذّاتِ بالتقصيرِ والإحساسَ بالذَّنبِ لهوَ بدايةُ مرحلةٍ جديدةٍ بعدَ تجربةِ سقوطٍ مريرةٍ، والشّاهدُ على ذلك قولُ آدم عليه السلام «قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» معَ هذهِ المراجعةِ النفسيّة ومواجهة الذّات والاعتراف بالخطأ نجحَ آدم ببلوغِ مرحلةِ النُّضجِ التي تَوَّجت رأسهُ بإكليلِ خلافةِ اللهِ في الأرض.
إنَّ الولوجَ البسيط لربطِ نظريّتَيّ الفيسلوفِ رينيه ديكارت “أنا أفكّر إذاً أنا موجود ” و ” المتّهمُ عندي مذنبٌ حتّى تثبتَ براءتهُ “، معَ تجربةِ آدمَ عليه السلام اللتانِ تشتركانِ في محورِ معرفةِ الحقيقةِ، يُفضيانِ إلى أمرٍ ملموس ” كل من يعتقد بوجودهِ متّهمٌ بالذّنبِ حتّى تثبتَ براءتهُ “، لإدراكِ الحقيقةِ المطلقة.
حينَ اتّهمَ آدم نفسه بالذّنب وواجهَ ذاته بلومٍ قاسٍ، ألم يكن هذا شكّ في الحقيقةِ التي رآها بعينهِ أولاً، ثمَّ سمعَ صداها في نفسهِ ثانياً (عندما أغواهُ ابليس)؟
ألم يكن هذا الشكّ في الحقيقةِ التي كانت وهماً طريقاً لبلوغِ الحقيقةِ المُطلقة؟
أولم تكن الحقيقةُ المطلقةُ مُتضمِّنةً قولَ آدمَ عليه السلام «فَاغْفِرْ لِي»، التي جعلتهُ يدركُ أنّهُ موجودٌ لهُ ما أُعطيَ له وعليهِ ما مُنعَ عنه؟
هذهِ الصّحوةُ شجرةٌ من الشُكوكِ ثمرتها الإدراكُ، أمّا عن نِتاجِها في حياةِ الفردِ منّا إذا ما كانت هناكَ رحلةٌ في سبيلِ اتّهامِ الذّاتِ بالذّنبِ، سعياً لإثباتِ البراءةِ لا أكثر، فلقد بدأتُها حينَ مررتُ بقولِ اللهِ تعالى «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»، قيلَ عن تلكَ الأمانةِ عند مختلفِ أهلِ التفسيرِ أنّها الفرائضُ و الأوامرُ المشرَّعة، و قيلَ: عندما عُرضت على آدم عليه السلام قالَ: أَي رب وما الأمانة؟، قالَ: إن أدَّيتَها جُزيت وإن ضيّعتها عُوقبت، فحملها، وكما رُويَ: فما مكثَ في الجنّةِ إلّا قدرَ ما بينَ العصرِ وغروبِ الشّمسِ حتّى عملَ بالمعصيّةِ فأُخرجَ منها.
لا شكَّ أنَّ حملَ الأمانةِ واجبٌ فرَّطَ في جنبهِ آدمُ، اعترفَ بالتفريطِ والتضييعِ من خلالِ لومِ نفسهِ، إلى أن تابَ اللهُ عليهِ بنفيهِ إلى الأرضِ التي توجَّبَ على آدمَ عليه السلام أن يثبتَ براءتهُ فيها بعدَ أن اتّهمَ نفسهُ بالذّنبِ.
إذاً نِتاجُ الصّحوةِ كانَ اتّهامُ الذاتِ بالذّنبِ والسّعيُ لإثباتِ براءتها، ونِتاجُ الشكِّ الديكارتي كانَ أنَّ إدراكَ الإنسانِ لنفسهِ هوَ البادئُ بالصّحوة.
إنَّ حقيقةَ وجودكَ لا تعني أنّكَ موجودٌ بالصّورةِ بنفسِها التي تتخيّلُ نفسك عليها.
يقولُ الطّبيبُ النفسانيّ والكاتبُ الأمريكي ديفيد فيسكوت في كتابهِ الشّهير (فجِّر طاقتكَ الكامنة في الأوقاتِ الصعبة ): ” أنقذ نفسكَ، هذا هوَ سببُ وجودكَ في الحياة “، اقتباسٌ عظيم يقودُ لنهايةِ تجربةِ آدمَ عليه السلام ولنظريّةِ معرفةِ الحقيقة عندَ ديكارت أنّ سببَ الوجود في الحياة إنقاذُ النفسِ المُتّهمة بالذّنبِ حتّى تثبتَ براءتها.
و بكلٍّ من ميزانِ القوّةِ و الضّعفِ، ميزانِ الصّوابِ و الخطأِ تكونُ لدينا الحقيقةُ المُطلقةُ “نقد الذات”، و هو أصلٌ أصيلٌ للبداياتِ الصحيحةِ التي تؤدِّي لبراءاتٍ متتاليةً للأفرادِ، و المُنَى قولُ عمرَ ابن الخطّابِ ” حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا “، و إذا كانَ اللهُ تعالى «لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» فإِنَّ كلَّ السّبلِ إلى البراءةِ آتيةٌ من نقدِ النّفسِ و نقدِ النّفسِ أولاً و أبداً .
وإنّنا لن نكونَ يوماً موضوعيّين في فهمنا لحقيقةِ هذا الكون ما لم نكن موضوعيّين مع ذاتنا.. ما لم نعتقد بوجودها، لأنَّ كُلَّ من يعتقدُ بوجودهِ متّهمٌ بالذَّنبِ حتّى تثبتَ براءتهُ.