عبدالله درويش
منذ الصغر كانت تثقب آذاننا شعارات الوحدة العربية، ولكنّها لم تقع؛ لأنها كانت مجرد أوهام، وذلك لأن دعاتها منافقون وغير جادين، فالوحدة بالنسبة لهم هي عبارة عن التخلي عن كثير من المزايا فيما لو تحققت، ولكي يوهموا الشعب المقهور بأنهم حريصون على الوحدة أطلقوا شعارات وهمية لا ترتبط بأي شكل عملي وواقعي.
وهذه الشعارات استمرت في زمن الدعوة إلى الحرية ولكن بعبارات مختلفة وأكثر تشتتاً وبنفس الأسباب، فمن يدعو إلى الوحدة هم أشخاص وهموا أنهم أقوياء، وبقوتهم امتلكوا بعض الفتات مما يسمى ميزات وصلاحيات ومصالح آنية، فهم سيخسرون كل ذلك فيما لو تمت الوحدة التي أصمُّوا أسماعنا بها دون أن تتحقق.
في الثورة السورية التي انطلقت شعبية بدأ يطفو على السطح أمراء حرب منتفعون من دم الشهداء لا يعنيهم معاناة الشعب المقهور البائس، وما يعنيهم فقط هو تحقيق مزيدٍ من المجد الشخصي فحسب، ولأنهم ينافقون باسم الثورة آناً، وباسم الدّين آناً آخر، وباسم الشعب مرة ثالثة، راحوا يطلقون شعارات الوحدة، ولكنها كما كانت في السابق، وهميّةً لا ترتبط بواقعهم العملي وتوجهاتهم النفعية.
هذا الواقع من الفرقة والتمسك بـ (الأنا) بلغ ذروته عندما حوصرت حلب، فقد سيطر التشرذم على المشهد رغم تهديد الجميع بالهلاك، ولم يستجب من يُسمّون قادة لأي دعوة للوحدة بحجج واهية كثيرة؛ منها الاختلاف في المنهج، ومنها التشكيك بمصداقية الآخرين، ومنها الاتهامات بالعمالة، وعندما ضاق الخناق وانحسر الثوار في أمتار محدودة، بل وربما مبانٍ معدودة تمّ تشكيل جيش حلب، بعد أن فات الأوان ولات حين مناص.
وتفاءل الناس خيراً بعد خروج الثوار من حلب، وقالوا إنّ هؤلاء القادة قد تلقنوا درساً من حلب، وها هي الفرصة ما زالت سانحة للوحدة والبدء من جديد، للحفاظ على ما تبقى، وأنه آن الأوان لفهم أهمية العمل الجماعي ونبذ الأنانية وأوهام الأمجاد الشخصية، ولكن ما حصل يوحي بغير ذلك، بدأت الشروط والقيود التي تعرقل هذه الوحدة بنفس الحجج الواهية المزيفة.
إنهم يذكروننا بالدروس والعبر التي وضعها لنا القرآن الكريم من خلال قصص بني إسرائيل وكثرة مجادلتهم ومخالفة أقوالهم وادّعاءاتهم لواقعهم وحرصهم على تفرقهم لنيل مكاسب زائفة، ومن أين لنا أن نأتي لهم بأنبياء ليدعوا الله بأن يرفع فوقهم الطور!
إن غياب الوحدة يعني أموراً خطيرة، منها غياب الهدف الذي انطلقت الثورة للوصول إليه في رفع الظلم والتخلص من الطغاة، ومنها غياب الصدق في تحقيق هذا الهدف لدى الأطراف المتصارعة على زخرف الحياة الدنيا، فلو كان الهدف واضحاً، ولو كانت النوايا صادقة لما حصل التفرّق أصلاً.
وهذا ينذر بعواقب وخيمة على أولئكَ المتصارعين، وعلى الجميع الذين تأمّلوا الخلاص في هذه الثورة، فطالما أن الأنانيّة معشعشة في النفوس، وطالما أن التمسك بوهم المناصب قائماً، وطالما أن التبعية أمرٌ لا خلاف عليه فلن تحصل الوحدة، ولن يكون هناك نصر.
وستتكرر مأساة حلب من جديد ولكن هذه المرة لن يكون هناك مكان للانطلاق منه، ولن يكون هناك وقت للملمة الأوراق، عندها ستكون النهاية الكارثيّة للجميع، وسنخسر كل شيء.
هذا النداء الأخير على جميع الفاعلين الحقيقيين ليتوحدوا قبل أن توحدهم قبورهم ومعتقلات النظام هذه المرة، ولن توحدهم حتى الباصات، وعندها سيوصمون عبر التاريخ بأنهم كانوا مجرمين بحق مَن وثق بهم، وبحق هذا الشعب الذي زادت معاناته وزاد جلّادوه، ولن ينفع حينها الندم والبكاء على أطلال بلد سلّموه لشذّاذ الأرض.