إن النضال في سبيل الحرية ليس نضالًا عبثيًا، وليس نضالاً من أجل الحقوق فقط، أو من أجل إسقاط الطغاة والمستبدين، (مع ضرورة الكفاح من أجل ذلك للوصل إليها)، إنما هو بحث حقيقي عن طريقة للعيش تحفظ كرامة الإنسان وتستعيد معنى وجوده.
تُمثّل الحرية الكلمة المفتاحية لمشروع النهضة، أو مشروع استعادة الوجود الحضاري للشعوب والأمم، فلا يمكن البناء بأي مجال من مجالات الحياة دونها، ودون قدرة الإنسان على استعمال قدراته وموارده بكفاءة عالية، تكفلها الحرية وتصونها القوانين الناظمة لها، ضمن ضوابط لا تحدُّ من الحرية، إنّما تمنع الانفلات والتنافس السلبي في الأطر التطبيقية.
فهم الحرية كمحرك رئيس في مجالات الحياة المختلفة يضمن بقاء الكفاح في سبيلها مستمرًا، بينما فهمها على أنها ترفٌ تحظى به الشعوب المتقدمة دون غيرها، يجعلها أحد كماليات الحياة التي لا يؤثر فقدانها على ديناميكية العيش وتطور الحياة واستمرارها، ويقتصر بالتالي إدراكها على جوانب المتعة والشهوات والترفيه، دون أن تدخل في جميع المجالات الأساسية التي تحرّك العالم من سياسة واقتصاد وعلاقات اجتماعية وتكنولوجيا ومعلومات و …
هذا الفهم القاصر تجاه الحرية يجعل من السهل محاربتها من بعض الدول والأنظمة والجهات المتطرفة أيديولوجيًا، بعد تحميلها كل الموبقات التي يمكن أن تلحق بالحياة، بينما يتم تصوير الاستبداد والسطوة على أنه سلطة الفضيلة والأخلاق التي تحافظ على الأمان والاستقرار وتثيب الصالح، وتعاقب المسيء، وبالتالي تتم إدارة الحياة والمجتمع على الوجه الصحيح والآمن بعيداً عن أي مشكلات قد تنتج بسبب الحرية.
كما أن هذا الفهم ذاته يجعل خداع الشعوب سهلاً، وذلك بمنحهم الانفلات في مقابل الحرية، وتصوير الانحلال واللاأخلاق والعبثية على أنها إحدى أهم مراتب الحرية المفقودة التي يجب النضال في سبيلها!! بينما يتم تجاهل فهم الحريات في المجالات الحيوية التي تصنع الحضارة والتقدم. حيث تُقدم الشهوات والمتعة والشذوذ والإلحاد والمصالح الضيقة على أنها حريات كبرى منخنقة، بينما يتم تجاهل ممارسة الحرية في باقي مجالات الحياة، وأهمها تلك الحريات القابعة في العمق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتسعى إلى تطبيق القوانين التي ترسخ العدالة بين أفراد الشعب وفئاته.
وهنا يبرز دور العدالة في فهم الحرية بشكل فائق الأهمية كقيمة في المجتمع تقوم على حفظ مصالحه، وليس على خلق صراعات داخلية فيه بسبب حريات متضاربة غير منضبطة لا يمكن حصرها إن لم تكن هناك قوانين ناظمة لممارستها في أي مجتمع تحول دون إلحاق الأذى بأي من أفراده.
ما يتم تقديمه لنا اليوم هو تلك الحرية القائمة فقط على خلق المشكلات في المجتمع، والمستمدة من المنظور الغربي الظاهري، القائم فقط على حريات النوع الاجتماعي والحريات الجنسية والشذوذ ومعاداة الأديان والإلحاد والخلاص الفردي، وتسلط الأقليات، وكأن هذه المجالات هي ما كنا نعاني منه في زمن الاستبداد!!.
إن فهم الحرية هو الخطوة الأولى التي يجب الاتفاق عليها من أجل أن يكون النضال في سبيلها مثمرًا وحيويًا.
المدير العام: أحمد وديع العبسي