أصدر جولان حاجي «إلى أن قامت الحرب، نساء في الثورة السورية» (عن دار رياض الريس للكتب والنشر، في بيروت).
هذا الكتاب عمل دؤوب، جامع، متعدد الأصوات، روته نساء سوريات شاركن في الثورة السورية، فشهدن جمال بداياتها الشعبية والمدنية، عبر تظاهرات وخطوات سلمية، ورأين مع الأمل الموت، لينهار أمامهن كل ما هو بشر وحجر، المنازل والأمكنة في مدنهن وبلداتهن التي انتفضت ضد السفاح بشّار الأسد.
نساء شجاعات كابدن في نضالهن، الاعتقال، والتعذيب، والمهانة، والقمع، والاتهامات الباطلة. واضطر بعضهن إلى مغادرة البلاد، وها بعضهن في شهاداتن الحية، تتعاطين مع الحرب بكل جوانبها الاجتماعية والسياسية، فيتحدثن هنا بكل تلقائية وشفافية وصراحة عن مساراتهن الوعرة، فتذكرن عما نجحن في القيام به، وما عجزن عنه خلال هذه الثورة، قبل أن تستحيل حرباً ضروساً، أتت على الأخضر واليابس.
وها هن تشهدن عما كابدن، مصورات عنف النظام، وفساده، ووحشيته. الأسلوب الذي صيغت فيه هذه الشهادات، ميسر، وقوي، ومؤثر، وسردي منساب، خال من كل تزييف وفبركة.
اسم مستعار، قميص مستعار، حرية مستعارة .. وهيام
مبرّحة بالألم، قبل إدلائها بأي اعتراف، أمسك المحقق بقميص هيام مهدداً بأنه سيقتلع عينيها. كان قد بلغ بها الأرق والألم حداً من الإنهاك جعلها تترنّح حين أفلت قميصها، ليرتطم ظهرها بخشب آلة تعذيب، عرفت لاحقاً أنها بساط الريح. أسعفت أخيراً إلى مستشفى الشرطة في حرستا، مغشياً عليها تقريباً، واقفة ومكبلة في الممر وقفت تنتظر نتائج الصور الشعاعية، إلى أن أجلسها الطبيب الذي شخص حالتها بـ«الديسك» (انفتاق النواة اللبية بين الفقرات)، ثم أوصاها بالراحة والنوم على إسفنج مضغوط، واستخدام مشدات للظهر وتجنب الوقوف والمشي إلا عند الضرورة، وكأن هذه النصائح ستؤخذ بالحسبان حقاً، في منفردة عرضها متر وطولها متران. ظلت هيام وحدها، لا ترى الشمس، ترتدي الملابس نفسها خمسين يوماً، ومنشفتها قميصها الداخلي، الوحيد المنسوج من القطن. تغسل ملابسها تحت حنفية المرحاض، الحنفية الوحيدة، وترتديها مبللة فلا تلبث أن تجف في قيظ آب 2011، وهي جالسة على مصطبة في عتمة لاهبة. بمرور الأيام والأسابيع اهترأ القماش، والألوان حالت وذابت في صِدارها، فاسودّ صدر القميص وأمسى النسيج أشبه بالشبكة.
انكشف الاسم المستعار الذي نوديت به «هيام جميل». أنكرته أولاً، ثم عُذّب صديقها أمامها، فما لبثت أن أقرّت بما أنكرته. بدد التوقيف مخاوفها إلى حين، فأخشى ما تخشاه قد وقع. من دون أن تتعرض للضرب، عُنّفت في التحقيق تعنيفاً مضاعفاً، لأنها من قرية علوية في جبال الساحل. القرية نفسها تبرأت منها. أتاها التعنيف من كل حدب وصوب. تتفهم التضحية وتقبلها، كأن ترديها رصاصة في تظاهرة، أو تسقط بين المتدافعين إلى الهروب وتتكسر عظامها تحت الهراوات، أو تقضي تحت التعذيب، وكل ما وقع وما لم يقع، لكن تبقى الإعاقة مريعة، ومثلها الاضطرار إلى اعتناء الآخرين بها صحياً، إذ أقلقها دائماً أن تتخيل نفسها معوّقة مدى الحياة.
انقضت الأيام الستون، وحُولت هيام إلى القصر العدلي. بالحرمان تحوّل ألم جسدها إلى جلادها، فقد صودرت مسكّناتها من حقن «الديكلون»، والألم المبرح أسفل الظهر يكاد لا يسمح لها برفع ساقها، فتجرّ قدميها جرّاً على أدراج المحكمة وفي اكتظاظ الممرات. رداً على محامية الدفاع التي طالبت بإخلاء سبيلها «نظراً لخصوصية وضعها العائلي»، أجاب القاضي مبتسماً: «آمر بتوقيفها وإيداعها سجن عدرا، حرصاً على سلامتها الشخصية». لكن طيف الموالاة واسع، وله في التطرف مراتب. تحت أعين عشرات رجال الشرطة الذين امتنعوا كمتواطئين عن تقديم أي عون، أشار شرطي إليها: «هذه هي!»، فهاجمتها قريبتها المحامية المنتظرة أمام البوابة الخارجية وضربتها، لتثأر من الفضيحة باقتلاع شعر رأسها، وتغسل بالبصاق على الأقل خزي العائلة؛ شتمتها: «يا عاهرة، تريدين أن تعارضي النظام، و»صرماية» بشّار الأسد تساوي عائلتك كلها؟»، وحين وصلت هيام إلى الحافلة، وسألت الشرطة: «أوظيفتكم حمايتي أم حمايتها؟»، كان الجواب أن أدار السائق المسجّلة، لتعلو إحدى الأهازيج التي تتغنى بالأسد.
إثر الدراسة الأمنية التي أجراها عناصر المخابرات، علمت العائلة بما فعلت ابنتهم في التنسيقيات، وسمعت باعتقالها في أحد مقاهي دمشق. زارها في سجن عدرا شقيقها الأكثر تفهماً، طبيب الأطفال المقيم في السعودية، الوحيد الذي أقدم على توكيل محام من أجلها. لامها الشقيق على ما اقترفت، وبينهما شبّاكان فاصلان، قائلاً: «سلكت بالمعارضة طريقا ًخاطئاً، فالناس تُقتل وينكّل بجثثهم. أنتم المعارضون مخطئون. لن يتغير أي شيء، والمحصلة فقط مزيد من الفوضى والطائفية». قدّامه، من وراء الشبّاك، أنكرت نشاطها، وأخبرته أن الأمر محض صدفة، وربما صدّقها ليرتاح قليلاً. سألته عن أولاد إخوتها العشرة، لأن أقرانهم في المدرسة والحي سيعيّرونهم بأبشع النعوت، شامتين بعمّتهم. كانت تقتطع من مرتبها لتأتيهم بالقصص المصورة والألعاب، فهم المحرومون الأحب إلى قلبها. «وتسألين عنهم؟!» أجابها شقيقها، وأخبرها أن طائرة عودته ستقلع مساء ذلك اليوم نفسه.
التحقت بهيام في سجن عدرا صديقة اعتقلها رئيس الديوان التابع للأمن السياسي؛ تصرف كأنه دورية بأكملها، إذ تعرّف إليها أثناء عبورها بالصدفة في الشارع نفسه، فاقتادها بمفرده، وصدرت مذكرة توقيفها في ما بعد، من دون أن يطالها أذى كبير، لأن المعلومات التي أرادوها كانت قد صارت بحوزتهم للتوّ. في غرفة الإيداع، لم يكن مسموحاً لهما، حتى في فسحة التنفس، أن تخالطا نزيلات قسم القتل المتعاطفات معهما، فتخرجان إلى الشمس والهواء وحدهما بعد عودة الجميع إلى المهجع، والسجينات السياسيات قانونياً يُعتبرن جانحات لا جانيات. كانت هيام تعد القهوة لصديقتها، متغنية بقهوة أم محمود درويش ذائعة الصيت، حين بادرت شرطية إلى القول دونما اكتراث: «أنت هيام؟ تعرفين أن والدك توفي؟»، كان جوابها قرعاً ضعيفاً على جرس السجينات لاستدعاء المدير، ودموعاً صامتة ذرفتها الشرطية مثلها حين علمت بأن أهل السجينة قد قاطعوها، وقد فقدت بموت أبيها سندها. سجينات أخريات سقينها الحساء، وواسينها وهي تُعدّ نفسها بالصبر والقليل من الأمل لسنوات طويلة من السجن. النهار التالي حمل نبأ الإفراج عنها.
تسترجع هيام كيف تلاعب المحققون في قسم الجرائم السياسية بفكرة «الشرف»، مهددين بإخبار أهلها أن «تهمتها دعارة». جراء تفكيرها المتواصل بموقف عائلتها وما قد تلقاه لاحقاً، كانت تتمنى أحياناً ألا يحين أبداً إطلاق سراحها، ففي السجن على الأقل نوع من حرية التعبير، وهي هناك تصرح بكل قناعاتها من دون وجل. عند خروجها، اكتشفت كيف انحسرت التظاهرات، وأضحت مع استفحال التسلّح وانشقاق الجنود بمثابة الانتحار أحياناً. اتصلت بأمها معزية بوفاة أبيها، وذهبت تزورها في «الضيعة»، بعد يوم الجمعة، لأن الطرقات مغلقة. في تلك الزيارة، استقبح شقيقها الأكبر تماسكها، فبعد ما حصل وجسامة الأذى، كان يتوقع أن يراها منهارة تماماً. انتظر منها إبداء الندم والتوبة عما اقترفت، لأن الحرية التي نادت بها هي حرية مستعارة ولا تشرّف أحداً، وعليها أن تعي ما يجري وتستيقظ، وإلا فلن تنال إلا القطيعة. كان مثل ذاك التبرؤ بالنسبة إليها أبشع ما تعرضت له من عنف، والوطأة الأدهى هي خشيتها من حبسها هناك، في بيت العائلة، إذا عاودت الزيارة. اتهمها الشقيق بالعمل مع الإخوان المسلمين، وبالتعاون مع قتلة رفاقه في الجيش، رفاقه الذين استشهدوا بسببها وبسبب أمثالها من المعارضين، وهمّ بضربها لولا أن تدخّلت أمهما، صارخاً: «لن أكون رجلاً إن لم أذبحها!».
عقب تلك الزيارة، علمت هيام أيضاً بطردها من وظيفتها كمهندسة زراعية. في دمشق، وقد خسرت كذلك المنزل الذي قطنته، استضافها في منزله مازن درويش مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، حيث اعتقلت هيام مرة أخرى لاحقاً. دورية من المخابرات الجوية داهمت المركز، واختطفت كل من كانوا فيه. التفتيش في ذاك الفرع كابوس كالاغتصاب. أدخلوها إلى غرفة، مكبلة معصوبة العينين، فاستهدت بالنبرات إلى وجود امرأتين سواها هناك؛ اقتربتا، المفتشتان اللتان تتواقحان في برود الردود، وبدأتا تخلعان ثياب الموقوفة قطعة تلو الأخرى، وهما تتعمّدان التمهل. الوقاحة بداهة هناك. ذروة انتهاك أخرى، أربعة أيد تتحرش في فظاظة بجسد ساكت مستسلم، فتتحسّس أعضاءه كلها بقسوة تفوق أي وصف. وقفت هيام عارية تماماً، مكبّلة معصوبة العينين، ثم سئلت بضعة أسئلة عن اسمها ومكان ولادتها، لتؤمر بعدها بارتداء ملابسها، من دون أن يزيل أحد العُصابة عن ناظريها أو يفكّ قيودها؛ تأسّفت لأن السترة المستعارة من صديقتها قد قُطّعت عروات أزرارها بالسكين، بينما هي محبوسة الأنفاس تخشى، عند سماع كل قطبة تتمزّق، أن يطعن النصل صدرها أو بطنها. مزقت المفتشات الملابس الداخلية لبعض الفتيات، أزحنَ الصدارات، وحملقن بالنهود المنتهكة لمعصوبات الأعين، ومددن الأيدي بين أفخاذهن، فلربما تكون الموقوفات قد خبّأن شيئاً هناك.
(نيسان 2012)
الوزارة وشهرزاد نحاتة الخبز.. ومريم
ارتاب الجيران بشبان مجهولين يترددون على بيت حسبوه مكتباً تنعقد فيه لقاءات سياسية محظورة، فاستدعوا فرع الاربعين القريب في الجسر الابيض. أولاً، دخل شخص يحمل مسدساً، أخفاه في نطاقه ما ان رأى وجبة الشاورما والكوكاكولا على الطاولة. كبح جماحه تدخل جار آخر، قال ان لإحدى الفتيات هنا قرابة مع شخصية نافذة في الدولة. يبدو ان ما سمعه المسلح عن النفوذ قد فرض شيئاً من احترام، لم يعتده في التعامل مع امثال هؤلاء الشبان في مداهمات مماثلة. مريم، المعنية بتنويه النفوذ ذاك، والمتمسكة بقولها ان هذا اللقاء صدفة، وهم ليسوا مجموعة سرية بأي شكل من الاشكال، حاولت الهاء الضابط بالكلام، ريثما يتخلص الحاضرون من معلومات قد تضر بهم على كومبيوتراتهم التي صودرت، فما افلحوا ورمى أحدهم جهازه من النافذة. ثم دخل سبعة آخرون ليفتشوا المكان، وأوعز الضابط بمرافقتهم في تفتيش اغراضها، والانتباه لكيلا يسرقوا شيئاً. اتصلت امها بينما هي تسقي الدورية ماء بارداً، والهاتف يرن ويواصل رنينه ولا احد يرد. هؤلاء العناصر اذا شموا الخوف استشرسوا واستقووا اكثر، فأي مواطن سوري متهم على نحو مسبق. مريم، بالتهذيب والهدوء الممكنين، كانت تأمل في معاملة افضل منهم، وربما نالتها نسبياً. حاولت ان تجعلهم يشعرون بأن من حقهم تفتيش بيتها، وظلت تسايرهم الى ان غادر العنصر الأخير، فأغلقت الباب وراءه، وسألته ان كان يريد الاحتفاظ بالمفتاح، فقد يحتاجون شيئاً ما هنا في غيابها. أجابها: «كلا، سنحضرك عند اللزوم». في الشارع التمست ان يأخذوها بسيارتها الى الفرع. بعد ايماءة موافقة من الضباط، قادت السيارة بنفسها، ومعها فتاة أخرى وعنصران.
الفرع بالطبع عالم آخر. جرى تفتيش السيارة على الفور، وانقلبت الدورية الى نقيض ما كانت عليه. في هيجانهم المسعور لمحت مريم شاباً يصغرها اعواماً وتعرفه جيدا، اعتقل في المداهمة نفسها؛ شاهدت تعذيباً ضارياً، أخرسها تقريباً طوال اربعة وعشرين يوماً امضتها في المنفردة. لا احد يستطيع ان يقول كل ما رأى. لم تستطع النوم حين لمحت الشاب نفسه مرة أخرى من كوة الباب، مضعضعاً حليق الرأس مطأطئاً في ممر التعذيب، مساقاً الى مبنى آخر. كان تعذيبه شديداً في الفترة نفسها التي عانت فيها مريم من التهاب العصب الوركي، أو عرق النسا. اضطربت، وراحت تطالب بقص شعرها كله، كأنها بهذا التمثل ستخفف من وحدته. لم تشعر بمغادرة السجن الا حين علمت بخروجه ايضا في وقت لاحق.
كانت مريم تنصح بعض الفتيات اللواتي جمعها بهن المهجع نفسه، وقد تفاقمت نوبات الهستيريا لدى المصابات برهاب الأماكن المغلقة. كانت، بما تقوله وتعيده، تنصح نفسها ايضاً: «عليك بالتأقلم مع رداءة الأحوال. لا تجلدي نفسك باسترجاع العالم الخارجي وقصص الأهل والذكريات. استرخي، ولا تقاومي، لأن ما حصل قد حصل، ولا يمكن تغييره أو العودة الى الوراء. لمَ التذمر. انظري الي، كنت أدخن ولا يزال فوح السجائر يسعدني، لكنني اقلعت هنا عن التدخين، فأوصدت بذلك باباً آخر من ابواب التنازلات. انهيت التنازل قبل ان يبدأ». كانت احدى الشابات تكشف ثديها للسجان لقاء «نفس» سيجارة، وتخاطبه «سيدي»؛ امرأة اخرى احتارت كيف ستأتي بالبرتقال الذي تشتهي ابنتها ان تشمه وتذوقه، ابنتها المراهقة الحامل والمعتقلة معها، وفتاة ثالثة راقصة عولجت من سرطان الثدي كان زوجها للتو قد دبر لها عقد عمل في أحد الملاهي، بعد استغلالها طويلاً في الدعارة. التقت مريم بمذلات يقع عليهن ظلم مضاعف خارج السجن وداخله؛ وتتوقف عند شابة حلبية المولد تسميها شهرزاد.
شهرزاد مطلقة، اجبرها ابوها على الزواج برجل حملت منه، وأجهضت ثلاث مرات. هربت من حلب الى حمص اولاً، ومن ثم الى دمشق لتعمل في مشغل من مشاغل الخياطة والتطريز بسوق الحميدية. اعالت نفسها، وأغرمت بشاب من ثوار الزبداني تعرفت اليه من خلال الانترنت. تزوجته زواجا عرفياً لدى احد الشيوخ، ثم اعتقلت وهي في الشهر الثامن من حملها. مريم تقاسمت الزنزانة معها، وكلمت الجنين الذي يسمع ايضا ما يدور حوله في تلك الاقبية، فسمتها الأم أمه الثانية، وكلتاهما تتبادلان الدعم في نوبات السخط والقنوط، وثالثهما في الصبر والوحدة طفل منتظر. في احدى المرات، أتت مريم بما لملمته من فتات الخبز وبقايا لبابه، وصنعت شهرزاد من العجين تمثالاً صغيراً دقيق القسمات للجلاد ابو غضب في فرع الخطيب، بنحوله وأذنيه الكبيرتين. جلاد مريض يحلم بالفراريج المشوية ويأكل الحمص، ويسقط احباطاته على أجساد المحابيس، ويتمنى لو تجد له مريم وظيفة في الوزارة التي تعمل فيها. عبر ما تناهى اليها من احاديث بينه وبين زملائه، علمت بوفاة المغنية وردة الجزائرية، وتسربت في ما بعد انباء مجزرة الحولة، وتسميم خلية الأزمة. أينا السجين؟ تقول مريم. أنا العابرة ككثيرين ان نجونا، ام ذو المرتب الشحيح، هذا المقيم الذي امضى اعواما وأعواما تحت الارض من دون تفكير بتبعات عمله؟ استوقفه ذات مرة بكاء شهرزاد، وقد امتنعت كلتاهما عن تناول برغل كالحصى لا يؤكل. سأل ما بها، فلم يلق جواباً. وبعد قليل اتاها بحبتي خيار طازجتين، والخيار ملغى من مخصصات سجن النساء، ثم ذهب وعاد بحفنة ملح صغيرة وضعها في راحة مريم التي رأت للمرة الأولى في السجن تلك البلورات النقية. كانت شهرزاد، كل ليلة تقريباً، تروي لها حكاية عن حلب، وبعض حاراتها وناسها والأعياد هناك وايام رمضان، وتختم الحكاية احيانا بأغنية تعشقها؛ وفي احيان اخرى تخبرها عن رجال مختلفين أولعت بهم وبوسامتهم، والعلاقات التي جمعتها بهم، وكيف كانت تتأنق وتتغنج. كانت تهمتها هي المساهمة في تأسيس شبكة للخطف، فهي المقتنعة بأن الغاية تبرر الوسيلة، ورأت كيف انتهت احوال البلد في طريق مسدود، ساعدت في استدراج بعض الضباط والموظفين الى كمائن اختطاف، طلبا للفدية لاحقا او لتصفيتهم. كانت شهرزاد تسمع في اصوات المعذبين صوتها هي، وصراخها حين كان ابوها يجلدها بـ «الجنزير» كلما التقت شاباً غريباً. بكتها مريم عند المغادرة، فقد ذهبت من كان يمكن ان تمدها بكأس ماء حين تستفيق لاهثة من كابوس. اليماً تجلى آنذاك خواء المنفردة التي ضاقت عليهما، واتسعت بكلتيهما.
أحد المحققين، بعد ساعات طويلة من تبادل الكلام وشرب الشاي، وكأن التحقيق على هذا الغرار سيكسر الاطار الذي يخنق الموقوفة، استمع الى مريم تقول: «عرفتمونا الآن اكثر، فهل احببتمونا؟»، أدهشها بالتعبير: «تصبحون على وطن!». لكن الحفاظ على القوة وتمالك الأعصاب يقتات من الجسد، والعلامة هي الكيلوغرامات الثمانية التي خسرتها مريم من وزنها، ولا سيما عند ارجعاها الى فرع البداية، فرع الخطيب، لأن ذلك يعني بدء دورة التحقيق من جديد؛ وفي إحدى جولاته كانت راكعة معصوبة العينين، والجلاد يقف الى جانبها ينعتها بـ»الوزارة»، وهو يضرب الارض بسوطه الثقيل، ويلامس به ركبتيها الجاثيتين من دون ان يضربها، كما تقضي الأوامر عادة بالامتناع عن تعذيب النساء. كانت تحث نفسها لتقوي اللواتي تظنهن اضعف منها. لكن قولها بأن التعذيب لسعة سيختفي اثرها في المستقبل لم يقنع احداً ولم يخفف شيئاً. الرجال يعذبون والنساء يبكين معهم، واذا اجهشت احداهن بغتة خلخلت الدموع كل الفلسفات، وعم النواح المهجع كله، وباءت كل تهدئة بالاخفاق.
حين افرج عن مريم التقت والدها الذي بكى عندما رآها في مكتب الضابط، بحضور مسؤول كبير في الدولة قال: «سوف نسلمك الى عائلتك ليتحملوا مسؤوليتك»، وحين احتجت، اسكتها غاضباً: «أنت لم تتزوجي بعد، ولا تعرفين معنى الأمومة ومعزة الاطفال. الآن انت بطلة معارضة، وسيتهافت عليك المعارضون. تزوجي أحدهم!». بوصولها الى البيت استحمت مريم بشامبو «سنان» الخاص بمعالجة القمل، قبل ان تنزل وتشرد وحدها في الشوارع، وتباغتها الحواجز في شوارع بغداد؛ عادت وافترشت الارض مثلما كانت تنام في السجن. لم تشعر بأن ثمة من يستوعبها حقاً، فما قد توحي به من قوة أمام المصائب حرمها العطف العادي الذي قد يحتاج اليه اي انسان، ان يخاف عليها احد، ويقف الى جانبها في تلك الوحشة. سجلت صوتها وهي تروي تفاصيل اعتقالها، لعلها تتخلص من هذا العبء؛ وحدها اعادت الاستماع الى نفسها، واستغربت صوتها مسجلاً. لم تشعر بالحرية، ولكن ما افرحها صحة والديها الجيدة، المحبين لها، وان اوقفت عن عملها، ولم يسمح بتجديد جواز سفرها. لقد وصلت بالاعتقال الى بقاع قاتمة في نفسها، في بعضها منبع قوة لم تكن تتخيل انها ستدركها ذات يوم. خاضت قذارة التجربة، وانتهت بالعودة الى الناس، اذ ما معنى انضمامها الى الثورة اذا انكفأت وما استمرت بالعمل من اجلها، وهي تعلم جيدا كل ما يترتب على ما تقوم به؟ مؤخراً، نجت من طلقة قناص، حين كانت توصل اغراضا الى مخيم اليرموك المحاصر.
(تشرين الثاني 2012)
مجدولين
اثناء زيارة لمسقط رأسها، بوغتت مجدولين ذات صباح بحيطان منزل العائلة في الطابق الارضي مغطاة بالشتائم التي كتبها اهل الحي، من قبيل «هذا منزل العرعورية الصغيرة مجدولين حسن»، وبما هو اقذع وأشد. واقفة في عرض الشارع، صرخت: «يا حارة الشبيحة لن تمنعوني، ولن اخافكم«. بعد اشهر من ذاك التهديد، وقد التم شمل العائلة اخيراً، الجهة نفسها التي اوعزت الى الجيران بالشتم ارسلت ثلاثين مسلحا ليداهموا المنزل نفسه، طوقوه ثم اقتحموه اقتحاماً شنيعاً: رجال مدججون بالمسدسات والبنادق داهموا الصالون الذي تترك الأم المسنة بابه مفتوحا عادة. دعا أحدهم «المحامية مجدولين حسن» لتتفضل معهم الى فرع الأمن العسكري في طرطوس. حين سألته عن الاذن النيابي، اجاب: «لأنك محامية، لهذا السبب حصراً، لم نحضر الاذن»، وابرز لها بطاقة المخابرات التي تحمل اسمه. وحين طالبت باسترداد الكومبيوتر المحمول الذي صادروه اخبرها بأن ترفع دعوى في المحكمة لتستعيده.
سيقت الى سيارة بيجو ستيشن. اجلسوها على المقعد الخلفي، محفوفة بالرجال والاسلحة. بالوصول الى الفرع، قيدت يداها المعقودتان في حجرها، وعصبت عيناها. الوقت في الظلمة يترامى امام معصوبي الأعين، مكبلي الايدي في الحجرات والممرات بوجوه اداروها الى الحيطان، بعد ان أمضوا على أوراق تسليمهم ما في حوزتهم من نقود وأوراق وأغراض. ذاك المساء، كانت مجدولين المرأة الوحيدة بين موقوفين لا يعرفون ماذا ارتكبوا. اقتيدت الى المنفردة لتضنيها هناك صرخات المعذبين وأنينهم طوال الليل، وتترقب مذعورة ان يحين تعذيبها في اي لحظة، تقضم اظافرها وتعاودها الهواجس في الظلام الذي يقلقها منذ صغرها؛ يخيفها اي باب ينفتح ويصطفق، لتدوي في الممر شتيمة: «أغلقوا الشراقات يا أولاد الحمير»، فتغلق كوة بابها، وتسمع كيف يحتك بأرض الممر جسد الشخص الذي خارت قواه، ذاهباً الى التعذيب أو آيباً منه، تسمع كيف يتهاوى الجسد الذي اثقلته الضربات ليرتطم بأرض الزنزانة، وكيف يخبط الرأس بالجدار خبطاً مكتوماً، ولا تعود تسمع اشارات الرسائل التي ينقرها الجار بأصابعه على الجدار عوضا عن الكلمات، فتحسب ان حياة اخرى قد ازهقت. نقرة واحدة اخيرة وانية، ويختفي جار في الصباح. ثلاثة اشخاص من بانياس قضوا على هذا النحو، سمعتهم يفارقون الحياة في ذاك الممر الذي قطنت نهايته، عشرة ايام من دون اي استجواب. يعامل المعتقلون معاملة الموتى المؤجلين. اطلاق ايدي الجلادين مطلق، من دون اي تبعات أو مساءلات لاحقة، واباحة كل صنوف الاذلال مقرونة بالاباحة في قتل السجناء، ليقع في قلب اي معتقل ان كفة الموت الاثقل من الأمل هي الراجحة دائماً. لا احد يعرف سبباً واضحاً لاعتقاله. لا تحقيق واضحاً، ولا معنى للأدلة والقرائن. الوضوح الوحيد هو التعذيب وآلامه.
في جهنم الأصوات تلك، صرخات من يساطون بالكبل الرباعي وتصعق خصاهم بالكهرباء؛ في تلك الشراسة التي لا تدع احداً ينام، وعاصفة ليلية تغطي بالثلج الارض التي تتراص تحتها المنفردات، اضربت مجدولين عن الطعام والشراب وآذت كليتيها، وهي تجوب ذينك المترين المربعين الرطبين لتدفئ مفاصلها، محدقة بقنينة البلاستيك التي تشرب ماءها، مشمئزة من الحنفية الوحيدة في حوض المرحاض. «ليس لدينا مضربات عن الطعام»، قال العنصر الذي ناولها من كوة الباب صحناً معدنياً فيه الطعام الرديء الشحيح. «ابلغ ادارتك بقراري»، قالت؛ فأجابها: «لم لا تضربين عن الكلام ايضا؟ واضربي عن النوم، واضربي عن الجلوس..». شكرته على النصيحة، فظنها تهزأ به. اخبرته انها تشكره من باب الأدب، ولكن المسافة بينه وبين الأدب شاسعة، غير ان المسافة بين يده ووجهها لم تكن كذلك. صفعها صفعتين متتاليتين قويتين، قبل ان تلجم سخطه صيحة من الطرف الآخر للممر تأمره: «توقف! لا تعليمات لدينا». قذفت بالصحن من الكوة الى الممر، لتتراكم الفئران على الفور فوق حبات الارز والبازلاء وتلاشيها؛ الفئران هناك اصدقاء لطفاء مؤنسون. كانت تلك هي المرة الاولى والوحيدة التي ضُربت فيها مجدولين، وكانت الليلة ليلة رأس السنة 2012.
نعيم السجن ورهاب الأبواب
السجن نعيم ان قورن بمنفردات فروع الأمن، تقول مجدولين. السجانة التي تستعطي اضأل الرشى في سجن طرطوس متماهية بالمكان الذي تقطنه وتعمل فيه، حذرت المحامية لكيلا تتمادى في اسداء النصائح، ولا تزيد من تراكم التهم في سجلها الأمني، فدعتها الى الكف عن تلبية استشارات السجينات واسئلتهن. هناك، التقت المحامية بزوجة «رهينة» اعتقلت لأن زوجها متهم بتجارة السلاح، والتقت مخبرة وشت بجارها المعارض فاختطفه الأمن الذي اتهمها لاحقا بطلب الفدية واعتقلها، ولا تنسى ثالثة اسمها «سورية» ظلت اعواما في السجن بتهمة سفاح القربى، بينما اخوها طليق السراح، فقط لأن أوراقها ضاعت ولم يتقدم احد بطلب لاخلاء سبيلها.
ترى مجدولين سجن المعارضات رسالة تأديب، ونهجاً «تربوياً» ليتعظ الآخرون، ولا سيما ابناء الطائفة العلوية «الكريمة» التي تحسب عليها المحامية المنهمكة بتوثيق الانتهاكات، ليصار اخيرا الى تلفيق كذبة يصدقها الكثيرون، وهي ان المعارضين سباقون في الجرائم ومسؤولون مباشرون عن سفك الدماء في البلد. انه جزء من نهج المخابرات في اكمال مسيرة تطييف المجتمع وتمزيقه، وقلب الثورة سنة ضد علويين وشيعة.
تذكر مجدولين ان التهمة الموجهة ضدها، بعد صدور المرسوم الوهمي لقانون الأحزاب، كانت تشكيل حزب سري؛ والدعاوى ترفع غالباً على المتهمين، ثم يخلى سبيل بعضهم بكفالة مالية، ويضطر المفرج عنهم الى مراجعة احد فروع الأمن، من اجل التفقد وانتظار يومين احياناً. قد تسقط تلك الدعاوى بالتقادم، او يشملها عفو رئاسي ليس الا مقايضة تنعت بـ»المكرمة». ومن جهة أخرى، ترى مجدولين في بعض السجانين ورجال الأمن ضحايا غسل الأدمغة الشمولي، بروباغندا روجت بين الفقراء والجهلة والأميين امل التطوع في الأمن، بوصفه مقدمة ستنتهي بالقوة والحظوة والجاه والحصانة، ولا تستغرب كيف لا تزال الثناءات والحسد تحيط بمن يبرع في تدبر نفقات حياته من خلال الارتشاء واللصوصية. كثر ايضا بين هؤلاء من لا يرتجى منهم اي امل.
اي حسم ستجلبه الأسلحة؟ حريصة على صون وجه الثورة المدني ما امكنني، ولست في خندق احد بعد ان كثر اعداء السوريين. لست نادمة ولن أتراجع. لا اكترث بخزي المعارضة السياسية، وعجزها المستمر عن تمثيل الشارع في شتى الأماكن، واقاسم اغلبية السوريين احقاداً لا تحصى ضد الأمن. لا ازال مستمرة في عملي تحت ظروف تفاقمت مشقاتها، بقلب يعتصره احيانا خوفي من اعتقال اصدقائي. اقوم شهريا بايصال تبرعات الراهبات من اديرة طرطوس وريفها، بعد تقسيم المبالغ كرواتب للسجينات، الموصومات المخذولات اللواتي تخلت عنهن عوائلهن. على الرغم من كل المصائب التي تتوالى، على الرغم من كل المخاوف واحتمالات ان اخسر ما اعرفه وما لا اعرفه، فقد تنزل قذيفة هاون في المكان الذي اقطنه، وقد اطرد من عملي في الأمم المتحدة ـ على الرغم من كل شيء، ينتابني احساس لم اعرفه من قبل، احساسي بجدوى ما اقوم به، اذ ما عدت تلك المتفرجة على رتابة الايام. لكني سأغادر سورية اذا سجنت مرة ثالثة. رهابي الوحيد هو العودة الى السجن بما يشبه الخطف، مثلما اختطف عبد العزيز الخير على طريق مطار دمشق، ومثلما اختطفت الثورة التي تحارب الآن على جبهتين على الاقل: ضد النظام، وضد الاسلاميين التكفيريين؛ يخيفني ان اختفي من دون التمكن من اخبار احد، فأؤنب نفسي لأني اقلقت اهلي الذين لا يعرفون كيف سيتصرفون، وأي أبواب سيقرعون ليعرفوا مصيري؛ شيوع النبأ يخفف على الاقل شيئاً من الهلع، لأن كل الاحتمالات في اختلال الموازين تبقى مفتوحة، وعدم وقوعها في الاعتقالين السابقين لا ينفيها البتة، احتمالات البقاء طويلا في السجن والتحرش والانتهاكات وحتى التصفية الجسدية، تقول مجدولين. تضاعف حذرها، اذ لكل سجين بعد اطلاق السراح كوابيسه، ارقه وأحيانا صمته الاقرب الى الخرس؛ عاد مجدداً الخوف من العتمة: العصابة السوداء التي اعمتها مؤقتا وضعت نصب عينيها قتامة المجهول، وحين رفعت عن ناظريها اثناء التحقيق، التحقيق الزاخر بالسخرية من العدالة والمحاماة والقضاة، رأت مجدولين اين كانت، رأت وجه من يستجوبها، وربما بات ممكنا آنذاك ان تتكهن بالتصرفات، فقالت: «نعم، سأنال من هيبة القضاء، ما دمتم قد نلتم من كرامتي. لست كما تكتبون على سياراتكم «هكذا تنظر الاسود». انظر الي، في عيني، هكذا ينظر الانسان العادي»؛ أمست لا تتابع اخبار التلفزيون، سيان القنوات الحكومية أو الجزيرة وسواها، فالأطراف جميعاً، خارجية او داخلية، الحت بطرائقها على قبر الطائفية في سورية ليتغذى سعيرها، وما استقوت به الثورة في بداياتها سعى لاحقا الى دفنها حية. كأي حرب اخرى لن تتوقف رحى هذه الحرب الراهنة الا بالمفاوضات.
لا يزال الهاجس نفسه يراود مجدولين عند ازدياد عدد الملتمين في سهرة او ملتقى؛ انها لا تنسى السهرة التي لفقت جراءها تهمة «تشكيل حزب سري«، إذ ضمت شقة قرابة عشرين شخصا في الضاحية الدمشقية جرمانا، حيث تقيم مجدولين وزوجها الذي خسر وظيفته. كانوا قد التقوا حول مائدة من التبولة والعرق، وهي تعزف على العود وتغني. انها الآن تتجنب الحواجز ما امكن، بالمشي أو تفادي بعض الشوارع، لأن الخوف من تعميم اسمها، ومطالبة الجنود بالهوية الشخصية، لم يبارحها بعد؛ لا تطفئ هاتفها النقال ابداً تجنباً لاقلاق الغير، فليس لخروجها عن نطاق التغطية، مثلما يردد المسجل الآلي، الا تفسير فوري هو الاعتقال؛ أحد اصدقائها المقربين مثلاً، وهو معتقل سابق، اعتقل حين زار أمها ليطمئن عليها. بات المنزل مصيدة، وصارت الأم في عقدها الثامن تجفل من رنين اي هاتف او جرس، ذاك الرنين المشؤوم في الفجر او منتصف الليل. باب البيت الذي كان يبقى مفتوحا في سالف الايام، مثلما كانت معظم الابواب في قرى الساحل السوري، وجدته مجدولين مغلقاً في الزيارة الأولى بعد الافراج عنها. ظلت الأم تقفل باب بيتها على ارقها اثناء اختفاء ابنتها؛ واذا طرق، ما عادت تنادي بصوت عال: «تفضل! الباب مفتوح!»، تدهورت صحتها، وقاطعت من لم يسأل عن ابنتها، وأحدهم ابنها الضابط الذي سمع باعتقال اخته ولم يحرك ساكناً.
المصدر: موقع قاسيون