عندما توفي ابنها البالغ من العمر 27 عاماً في سوريا، شعرت ريما بالغضب أكثر من شعورها بالحزن. للأسف، لم تستطع أن تعبّر بصوت عال عما كان يدور بذهنها. فقد تم إرساله للقتال في سوريا، من دون موافقتها، ومن دون أن يتلقى التدريب المناسب. أرادت أن تلقي اللوم على شخص ما، وبشكل رئيسي على أولئك الذين أقنعوه بالانضمام إلى المقاتلين في سوريا، لكنها لم تستطع فعل ذلك. وقد أشاد مجتمعها بوفاته واعتبره بمثابة تضحية تتجلى في الاستشهاد.
عندما زارها مسؤولو «حزب الله» بعد أن فقدت ابنها، اختنقت الكلمات في حنجرتها أثناء استماعها إليهم يطيلون الحديث عن دور السيدة زينب، حفيدة النبي محمد وابنة الإمام علي، واحدة من الناجين القليلين من معركة كربلاء التي قُتل خلالها أخيها الحسين. بالنسبة إلى الشيعة، ترمز السيدة زينب إلى الحزن النقي والعدالة والكفاح من أجل نصر الخير على الشر. وبالنسبة إلى الشيعة اللبنانيين، لا سيما أولئك الذين يدعمون «حزب الله»، تلعب السيدة زينب دوراً آخر: كمبرر رئيسي لمشاركة الحزب في الحرب السورية؛ فالمقاتلون متواجدون هناك لحماية مقامها في دمشق.
استمعَتْ ريما بصمتْ لمسؤولي «حزب الله»، لكن جلّ ما أرادته منهم كان المغادرة. فلم تشعر بالقوة والمرونة التي ترتبط عادة بالسيدة زينب وبأمهات الشهداء. بل شعرت بأنها مستنزفة وخاوية. قالوا لها إنها قد رُفعت الآن إلى كونها والدة شهيد، وأن السيدة زينب سترعاها.
هل سيؤمن هذا اللقب مستقبلها؟ ليس فعلياً. ستحصل على تعويض وبعض الفوائد، لتُمسي بعد ذلك طي النسيان، مثل الآلاف من الأمهات الأخريات اللواتي فقدن أبناءهن في المعركة. وسيتحول ابنها من الصبي النابض بالحياة الذي ترسمه ذكرياتها إلى ملصق قديم على أحد الجدران المتهالكة في الضاحية، وستعود إلى حياتها المليئة بالكفاح من أجل تغطية نفقاتها.
تتحدر ريما في الأصل من جنوب لبنان. وقد انتقلت إلى الضاحية مع عائلتها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وتزوجت عن عمر مبكر ولم تكمل تعليمها واعتنت بأطفالها الخمسة. أما زوجها فيعمل سائقاً لسيارة أجرة وبالكاد يجني ما يكفي من المال لإطعام أسرته. كان أملها الوحيد هو رؤية أطفالها ينعمون بحياة أفضل من حياتها. أما الآن، فقد توفي أحدهم، ويطوق الأصغر بينهم إلى الانضمام إلى القتال في سوريا للانتقام لوفاة شقيقه، ولكن أيضاً لكسب المال بعد أن فقدت العائلة راتب أخيه.
أما فاطمة، زوجة ابن ريما الراحل، فيبدو أنها تحب فكرة مقارنتها بالبطلة التي طبعت ملامح تربيتها. فهي أرملة في العشرين من عمرها الآن، ولديها ابن سوف تضطر لتربيته بنفسها. وقال لها مسؤولون في «حزب الله» أنه لا داعٍ للقلق، لأنهم “سيعتنون بها”. ومع أنهم لم يحددوا أبداً كيف سيقومون بذلك بالضبط، إلا أن وعودهم أشعرتها بالأمن والأمان كونهم مسؤولين في الحزب. “لكنها ستدرك قريباً أن الأمر ليس سوى وهم”، وفق وجهة نظر ريما، وأضافت قائلة: “أعطونا مغلفاً به 20 ألف دولار وقالوا لي أنهم سيكونون على اتصال معنا”.
تصبح العديد من الأرامل الشابات الفقيرات، مثل فاطمة، جزءاً من مجموعة عرائس «حزب الله»، أو مجموعة الزوجات المؤقتات، لمقاتلي الحزب، كمكافأة تُعطى لأولئك الذين يعودون إلى بيروت لينعموا بقسط من الراحة من المعركة، أو يصابون بجروح خلال القتال ويستحقون التعويض. ورضا، هو أحد هؤلاء المقاتلين البالغ من العمر 25 عاماً وكان قد عاد من حلب إلى لبنان إثر إصابته بجروح، وتزوج إحدى الأرامل الشابات بمجرد خروجه من المستشفى. وقد حصل على خطاب تهنئة من الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله نفسه، وبعض المال لاستئجار وفرش شقة صغيرة في الضاحية، وعلى مبلغ إضافي كتعويض عن الجراح التي أُلحقت به. فهل سيكون هذا كافياً لرضا وزوجته الجديدة لبدء حياة جديدة؟ كلا، على الأغلب. فالمال سيوفر بعض الارتياح الحقيقي بل المؤقت له ولزوجته. ولكن في النهاية، سيتوجب عليه تولّي شؤونه بنفسه.
لقد كان ابن ريما منضماً إلى «حزب الله» منذ فترة من الوقت، لذلك تم دفع تعويض لعائلته عند وفاته. وعلى الرغم من أن البعض يشكون من أن التعويض كان أعلى في السابق، بحوالي الضعف، إلا أن العائلات لا تزال تتوقع أن يتم تعويضها والعناية بها. غير أن الحزب لا يتمتع في الوقت الحالي بنفس الميزانية لتقديم الخدمات التي كان يقدمها في السابق، بما أنه يجب تخصيص معظم الأموال القادمة من إيران للعمليات العسكرية الإقليمية، لا سيما في سوريا، مما يعني أنه لا يمكن التعويض لأسر المجندين الجدد بما يقرب من نفس المستويات التي تُدفع للمقاتلين القدامى. وفي غضون ذلك، يلقى المزيد من المقاتلين حتفهم، وتطالب المزيد من العائلات بالتعويض والخدمات. ويخلق ذلك استياءً في مجتمع «حزب الله» وفي صفوف الطائفة الشيعية على نطاق أكبر في لبنان.
بعد أن اضطر «حزب الله» إلى قطع بعض الخدمات الاجتماعية التي يقدمها وزيادة ميزانيته العسكرية، بدأت الخلافات مع أنصار الحزب تظهر على السطح وتصبح أكثر قوة. على سبيل المثال، تتم مكافأة المقاتلين (الرجال) على جهودهم وتضحياتهم، في حين يُتوقع من الموظفين الآخرين (معظمهم من النساء) البقاء في حالة من الانتظار إلى حين انتهاء المعركة وتحقيق النصر. ومع ذلك، انقضت أكثر من أربع سنوات، ولا يزال النصر أشبه بأمل بعيد المنال.
وتشكل مؤسسات «حزب الله» هيكلية اقتصادية بديلة توظف وتجذب الرجال والنساء من الحزب؛ إذ يتم توظيف الفتيات من مجتمع الحزب في مدارس “المهدي” أو “المصطفى” (التابعة لـ «حزب الله»). ويُتوقع منهن أن يعملن في مؤسسات الحزب، ويتزوجن من مقاتلين في الحزب، وينشرن قيم الحزب داخل عائلاتهن وخارجها على حد سواء. ويُدرك «حزب الله» أنه يمكن للمرأة المنضبطة والملتزمة أن تربي مقاتلين منضبطين وملتزمين. وهو نظام يستنسخ نفسه مادياً.
لكن الحرب التي لا نهاية لها في سوريا تخلّف شقوقاً في النظام، والمرأة في الحزب لم تعد تشارك كما كانت تفعل من قبل، أو لم تعد تحصل على تعويض عن تضحياتها كالذي يحصل عليه الرجال. إن الفجوة بين المقاتلين القدامى والجدد تتسع أكثر فأكثر. فالمقاتلون القدامى وعائلاتهم لا يزالون يشكلون جزءاً من مجتمع «حزب الله»، الذي لا يمثل الطائفة الشيعية ككل. وعندما يموتون في المعركة، تُعامل نساءهم باحترام أكبر ويحصلن على المزيد من التعويضات. وهؤلاء النساء هنّ بالفعل جزء من نظام «حزب الله» ويتمتعن بنوع من القوة والمكانة. وفي حين تم الحد من الخدمات التي تقدم إلى المجتمع الأكبر، لا تزال الرعاية متوفرة للدائرة المقربة في الحزب.
ومع ذلك، تبرز مشكلة جديدة في هذا الإطار تتجلى في زوجات المجندين الجدد. فهن لسن بالضرورة من أعضاء «حزب الله» ولا يلتزمن بالضرورة بالأيديولوجيا أو الحرب، لكنهن جزء من المجتمع الذي يرعاه الحزب كما يُزعم. وهن يتحدرن في الغالب من أسر فقيرة. ومن دون دخل أزواجهن، ومع تقليل التعويض والخدمات المقدمة إليهن، تكون هؤلاء النساء عرضة للمعاناة المالية، على الرغم من كل ما يقال عن وضعهن الذي ارتقى حديثاً ومن حماية السيدة زينب.
ومن جهتها، غامرت سمر، وهي من سكان الضاحية، بالقول “تبرز مشكلة خطرة في الطبقات داخل مجتمع «حزب الله»”. فقد كانت سمر نشطة في مؤسسات الحزب كمتطوعة قبل انخراط هذه المؤسسات في سوريا. وعند قولها “مشكلة في الطبقات” فهي تعني الطريقة التي يُقسِّم بموجبها «حزب الله» ميزانيته: المقاتلون مقابل غير المقاتلين، والمقاتلون القدامى مقابل المجندين الجدد.
وفي هذا السياق أوضحت سمر أنه “على الرغم من أن زوجات مسؤولي «حزب الله» يقدن سيارات جديدة فخمة ويتسوقن في أغلى المراكز التجارية، إلا أن العاملين في مؤسسات الحزب [حوالي 65 في المائة منهم من النساء] يفقدون بعضاً من استحقاقاتهم، ويتم خفض رواتبهم وتأخيرها. وفي الوقت نفسه، يتم إهمال أمهات المجندين الجدد وزوجاتهم”.
بعد معركة القُصير في عام 2013، أدرك «حزب الله» أن الحرب السورية ستكلف الحزب أكثر مما كان متوقعاً. وسيكون غير قادر على تغطية معظم التعويضات لأسر الشهداء. لذلك بدأ يطلب من الرجال العزاب العزوف عن الزواج وتكوين الأسر وبدأ يجند الشبان غير المتزوجين بنسبة أكبر. وشرحت سمر أنه “إذا توفوا هؤلاء، على الحزب أن يدفع فقط بضعة آلاف الدولارات إلى ذويهم، ولكن عندما يموت الرجل المتزوج أو يصاب بجراح، يتوجب على الحزب رعاية أسرته إلى الأبد، من خلال «مؤسسة الشهيد» و «مؤسسة الجرحى»”. ومع مقتل أكثر من 1500 محارب من الجماعة حتى الآن، ووقوع العديد من الجرحى بعدد أكبر من ذلك بكثير، فإن مؤسسات «حزب الله» قد أصبحت غير قادرة ببساطة على تغطية كافة تكاليف عوائل المقتولين والجرحى.
ولكن مع استمرار الحرب، لم يعد الحزب قادراً على منع الشباب من تكوين الأسر، على الرغم من تكاليف الأمر. ولهذا السبب يتم تشجيع الكثيرين على الزواج من أرامل الحرب، أو على الأقل الانخراط في زواج المتعة المؤقت إلى أن يحين الوقت المناسب.
ونظراً لأن المجندين الجدد ما زالوا يُعتبرون غرباء، فإن زوجاتهم يحصلن على أدنى منزلة في الحزب، مما يعني أنهن أسوأ حالاً من الناحية المالية، وأكثر عرضة لمطالب الرجال من ذوي المقام الرفيع داخل الحزب. وقد تحدثت العديد من النساء بصراحة عن تهديد مسؤولين في الحزب لهن بتخفيض الخدمات والمال إن لم يقبلن «الزيارات الخاصة»”. وترفض بعض النساء مثل هذه الزيارات، في حين تقبل بها أخريات. “وإذا كان هذا المال هو كل ما يمكن أن تحصلن عليه، فإن زواج المتعة ليس حراماً، والبعض ليس لهن خيار سوى قبوله”، كما قالت سمر.
إن زواج المتعة ليس مقبولاً فحسب، بل يتم الترويج له على أنه فعل مقدس سيلقى جزاؤه في الجنة. ومن خلال ربط العمل المقدس بهذه الممارسات، تمكن «حزب الله» من احتواء خسائره وتحقيق نوع من التوازن الهش في هذه الظروف الصعبة.
وقد تمكن الحزب أيضاً من تغيير قواعد زواج المتعة من خلال فتاوى، من أجل جعله أكثر سهولة ويسراً. فقد تم إصدار فتوى قبل بضعة سنوات تسمح للرجال المتزوجين بزواج المتعة، وفتوى أخرى أكثر حداثة تسمح للمرأة بزواج المتعة من دون الحاجة إلى قضاء مدة العدّة التي تشمل 40 يوماً بين الرجل والآخر، وهي الفترة الزمنية المطلوبة عادة للتأكد من أن المرأة ليست حاملاً. ومع أن هذه الفتوى الجديدة ألغت العدة، إلا أنها منعت الإيلاج. ,بالتالي يمكن للمرأة والرجل أن يفعلا كل ما يحتاجان إليه للحصول على المتعة الجنسية طالما لا يقوم الرجل بعملية الإيلاج. بعد ذلك يمكن للمرأة أن “تتزوج” من رجل آخر على الفور. لكن، في نهاية المطاف، تدرك النساء أن الخدمات الجنسية التي يقدمنها هي أكثر أهمية. فلو لم يكن الأمر مرتبطاً بالمال الذي يحصلن عليه، لكان عدد قليل، إن لم نقل معدوم، منهن سيشاركن في هذا العمل المقدس.
كانت أمل من اللواتي رفضن عروض أحد أعضاء كبار الحزب. فعندما توفي زوجها، جاء وفد من مسؤولي «حزب الله» لزيارتها، وأعطاها مغلفاً مليئاً بالمال. ثم زارها أحدهم بعد بضعة أسابيع “للاطمئنان عليها”، ولكن بعد ذلك أصبحت زياراته متكررة وبدأ يغازلها. هي فقيرة للغاية ولكنها وجدت مطالبه مهينة. وعندما رفضته، هدد بوقف الأموال التي تحصل عليها. وعلى الرغم من أنه لم ينفذ تهديده، إلا أن ضعفها ضِمن النظام بات واضحاً.
وتتحدر أمل من عائلة محافظة جداً من منطقة البقاع. لذا عادت للعيش مع والديها بعد وفاة زوجها، ولكن والديها هما في الأساس فقيران للغاية، ولا يمكنهما إعالتها. وفي النهاية، وبتشجيع من والديها، وافقت على عرض زواج من مقاتل آخر لم تراه بتاتاً من قبل. فكونها زوجة أحد المقاتلين يضفي عليها هيبة معيّنة. وعلى الرغم من النقص الحالي في الخدمات المناسبة، لا تزال نسبة كبيرة من المجتمع تؤمن بأن الحزب سيعتني بالمقاتلين وأسرهم. وفور تزوجها من المقاتل، توقفت المضايقات التي كانت تطالها.
تشكل النساء المشكلة الداخلية الرئيسية في «حزب الله». فهن يخسرن أبناءهن وإخوتهن وأزواجهن في الحرب في سوريا. وهذا الأمر يهمش دورهن في الحزب، ويدفع الأفقر من بينهن إلى حافة البقاء على قيد الحياة. ولا يمكن احتواء الضغوط التي تنشأ داخل المجتمع لفترة طويلة جداً عن طريق اتخاذ تدابير لسد هذه الفجوة، مثل تأخير زواج الشباب وتحليل زواج المتعة للأرامل. إن الإحباط والظلم الاجتماعيين الذين تستمر الحرب في تضخيمهما وتعميقهما قد يؤديان قريباً إلى انفجارٍ لن تكون حتى السيدة زينب قادرة على منعه.
المصدر:معهد واشنطن / حنين غدار، صحفية وباحثة لبنانية