عبد الرزاق الشامي |
تنويه: إن ما سأذكره واقعي، وقد أجريت المقابلات وجمعت المعلومات بنفسي، وأغفلت الكثير من التفاصيل بما فيها أسماء الشخصيات وذلك تحفظاً على خصوصيتهم.
بنظرات خجولة واستحياء بادٍ على وجهها، تستطيع أن تلمح تعب السنين رغم أن عمرها لم يتجاوز بضعًا وثلاثين عامًا، يا لَتلك القسوة التي خطتها الأيام موغرة في قلب حزين رغم تلك الابتسامة الصابرة التي تحاول أن تتستر بها على جحيم ذاك الألم!
اسمها يحمل من الطيب والنقاء المعنى الكثير، وأنت تنصت السمع إلى حديثها المغلف بالألم، لا بد أن تبذل ما في وسعك لتجمع خيوط مأساتها وتدرك أي جحيم تعيشه تلك النسمة التي قدر لها أن تُجعل في جسد أنثى.
كانت في أول صِباها عندما ساقوها لزواج قسري من غير موافقتها، كان ابن عمها هو الزوج الذي فرض على حياتها قتامة، ضربها في باكورة زواجها وهي الفتاة الغضة التي لم تتجاوز خمسة عشر ربيعاً، تستذكر ذلك اليوم بنوع من الألم الذي تراكم عبر السنين، كان ضرباً مبرحاً لئيماً من كائن لم يعرف الرحمة.
تسرح بنظراتها، فتلحظ في طرفها قهراً غائراً في الأعماق، يترجمه واقع الحال الرث، وأنت تستمع إلى حديثها المفعم بالأسى، يمكنك أن تسترق بضع دقائق من وقتها الثمين وتطرح أسئلتك الفضولية: لماذا تعملين بقطاف الزيتون؟ لتجيب: لأطعم أطفالي. وماذا عن زوجك وأين مصدر عيشكم؟ ذلك حديث يطول، لكن زوجي لا يعمل بل أنا أعمل وآتي بمصروف البيت. وما بال ابنتك؟ لقد أجبرها زوجي على ترك مدرستها من أجل العمل. ماذا يفعل زوجك في حياته؟ يقضي وقته (بكش) الحمام. لماذا تضطرين لجمع قصاصات الحطب في البرد القارس هذا؟ يتعين عليَّ ذلك لأطبخ لأولادي طعاماً، فلا غاز عندنا للطبخ ولا مصدر دفء آخر.
هكذا ببساطة تُلخص بطلة القهر قصتها، لكن يتعين عليها بعد انتهاء دوام قطاف الدولارين ومغادرة شُجيرات الزيتون في الأرض الموحلة، أن تسعى في لملمة الحطب لتطهو طعام أطفالها وزوجها اللئيم، وتبث بعض الدفء في أجواء ذلك البيت الكئيب.
ولا بد لها من أن تحثَّ الخطى حتى لا تتأخر عن ذاك اللئيم الذي يرقب عودتها لتطبخ له، وحدث ذات مرة أن خانتها الخُطى وكان ثمن تأخيرها ضربًا مبرحًا صبغ جلدها ألماً ووجعاً ذلك أنها تأخرت عن إلقامه طعامه الموعود.
إنه يوم آخر من العمل الشاق من الصباح حتى المساء، فساعات عملها اليومية في القطاف لا تقل عن عشر ساعات مقابل مبلغ لا يزيد عن الدولارين بكثير.
لكن المفاجأة أنها تصحب ابنتها التي لم تتجاوز الخمسة عشر ربيعًا، إنها أنثى جديدة ومأساة جديدة سترويها لك قائلة: “اللحم والفاكهة والحلويات، أشياء لا نعرفها..” بل بابتسامة مخيفة يمكن أن تفهمها أنها ابتسامة يأس تقول تلك الفتاة: “كم أتمنى أن أعود إلى مقاعد المدرسة!” تلك المقاعد التي أبعدت عنها قسراً وهي بنعومة أظفارها، بل بات لقهرها مع أمها أثر موغل في القسوة على نفسها، حتى باتت تكره جميع رجال الدنيا وتعلنها قائلة: “لن أتزوج من أي رجل.”
كان ذلك قرار تلك الفتاة البريئة؛ لأنها ترى جميع الرجال قد اختصرهم أبوها بشخصه اللئيم الذي يوسعها وأمها وإخوتها الصغار ضرباً مبرحاً، لا لشيء، إلا لأنه محسوب على زمرة الذكور!
سيكون عليك وأنت ترى ذلك القهر المتوحش ينال من تلك الأنفس البريئة، أن تسأل لماذا؟ وأي ظلم هذا الذي فرضه هذا المجتمع المليء بالعادات البالية التي يرفضها الإسلام الحنيف ويجعل منها ظلماً وعدواناً.
أي تقصير هذا الذي نراه؟! وأي تغييب لهؤلاء المقهورين من مذكرات حياة المترفين وجداول أعمالهم السخيفة؟! أين العدل في أن تسعى امرأة على أسرتها وزوجها خائر لئيم متخاذل لا يصلح لشيء؟! أين المحاكم التي تنصف هؤلاء المقهورين؟! أين تلك المنظمات التي تبعثر عملها ولا ترى من هؤلاء شيئاً يستحق المساعدة؟!
سيظل هذا القهر الذي عميت عنه أبصار المترفين لعنة تطوق ما يرفلون به من النعيم، وأما ذلك الجحيم الذي ترزح تحته بعض نساء بلادي، فلا بد أن يأتي يوم تشخص فيه الأبصار، وحينها تجتمع الخصوم.
1 تعليق
عمر
حسبي الله ونعم الوكيل
لازم جماعة الحسبة يتولوا هيك زمرة لعل المجتمع يستقيم