نورس أبو نضال
لا شكَّ أنَّ لغيابِ القيم الفاضلة ومكارمِ الأخلاق في المجتمعات الإنسانية، مخاطراً كبيرةً وآثاراً مدمرة تهوي بمجتمعات وأمم قد تركتها، وترتقي بأخرى قد أخذت بها.
فالرغبة بالحصول على اللذة والمال والسيطرة والسلطة دون حدود ومهما كانت الطرق والأساليب وعلى حساب معاناة كائن من كان، هي طاقة متوحشة وكبيرة تبقى خامدة ومقيدة في نفوس الكثير من البشر بفعل الضغط القيمي للمجتمعات التي تتغنى بالسلام والعدل والإيثار والتضحية والعفو والصفح.
وقد تغدو هذه القيم والأخلاق متجسدة في حالات من السكون والهدوء والاستقرار، ومع ذلك تحتاج الحياة لتستمر بشكل طبيعي إلى قوانين وضوابط تنظمها وتحكم تصرفات البشر مع بعضهم البعض.
إلا أنَّ هذه القيم والأخلاقيات تنحدر وتتلاشى في حالة الحرب بشكل جنوني وكبير جداً، حيث القوَّة الباطشة والانفعالات العنيفة التي لا تراعي أدنى احترامٍ للكرامة الإنسانيَّة.
ويتحول الكثير من المحاربين إلى وحوش بشرية تدمن القتل ولا ترعى حرمة لشيء، ويصبح القتل لغاية القتل فقط هو المسيطر في كثير من الأحيان ويرتكب في الحروب الكثير من الجرائم القذرة والموبقات الفظيعة.
وتتمثل الخطورة الكبرى بأنَّ ذلك المجتمع وتلك السلطة اللذين يحرصان على تمجيد القيم والأخلاقيات وتمجيد أصحابها، يتحول إلى أكبر الداعمين لمرتكبي هذه الجرائم بوصفها بطولات في سحق الأعداء والقضاء على الشرور المتمثل بالخصوم.
وفي نظرة تاريخية خاطفة، كانت الحروب في العصور القديمة تتسم في معظمها بغياب أي نوع من أنواع الضوابط والأخلاقيات في أفعال المتحاربين، فيكون المشهد الأخير لكثير من تلك الحروب بالإبادة الشاملة وعمليات الإحراق والسلب والنهب والاغتصاب والتدمير ومحو مدن وشعوب بأكملها من خارطة الوجود.
ورغم مرور الزمن وتتالي القرون إلى أن وصلت عجلته إلى العصر الحديث، لم تكن أخلاقيات الحرب لدى الأمم المختلفة أفضل حالاً، ولنا في فظاعات إبادة الهنود الحمر وحقبة الاستعمار واسترقاق قارة أفريقيا والحربين العالميتين دليل وبرهان.
لتلك الأسباب وغيرها كان لا بدَّ من وجود قوانين وقواعد وأعراف تضمن حداً أدنى من المعايير الأخلاقية تنظم حالة الحرب كما وجدت تلك النصوص القواعد لتنظم حالة السلم أيضاً.
ولقد كان أول وجود حقيقي لتلك الضوابط والمعايير الأخلاقية لتلجم من هيجان الحرب وتقلل من آثامها، مرتبطاً ببزوغ فجر الشريعة الإسلامية التي وضعت حدوداً للنفس البشرية وأهوائها.
ولقد أحست الدول ولو متأخراً جداً بضرورة وضع قوانين وقواعد تخفف من وطأة الحرب وقساوتها بعد ما ذاقت البشرية ويلات توحش وهمجية بعضها بعضاً، وارتكبت بحق بعضها البعض إثما وفظائع لا يمكن وصفها واختصارها.
فتمَّ عقد العديد من الاتفاقات على فترات متقطعة من الزمن مشكلة ما يعرف بالقانون الدولي الإنساني وقانون النزاعات المسلحة.
لذلك بتنا الآن بين مجموعتين من القواعد والقوانين التي تحكم حالة الحرب والنزاع؛ الأولى أسبق بالظهور بما يزيد عن الألف عام، وهي قواعد الحرب والنزاع المسلح في الشريعة الإسلامية، والثانية هي قواعد الحرب والنزاع المسلح في القانون الدولي.
وتبعاً لما سبق يبدو لي أنَّه من المهم جداً النظر في تلك القواعد في المنظومتين والبحث في نقاط التطابق بينهما ونقاط الاختلاف.
والبحث أيضاً عن مدى تأثر القواعد الموضوعة لاحقاً عن تلك السابقة في الظهور،وهل حرصت تلك القواعد في الحفاظ قدر الإمكان على حياة الفرد وكرامته في حالة تغيب فيها العقول، وتسيطر الأهواء والأطماع، وتسود عدالة المنتصر.
يتبع ..