نورس أبو نضال
جاءت نظرية الحرب في الإسلام كما نظرياته الأخرى لتشكل نقلة نوعية في رقي البشر وتحضرهم، ولقد كانت تفوق ما يتخيله الإنسان آنذاك، وتهدف بالمقام الأول إلى تقليم أنياب الحروب البشعة وتقييد الأنفس الشريرة الأمارة بالسوء التي تجد في حالة الحرب باباً للنهب والسلب وسفك الدماء بغير داع وفرصة ذهبية للاغتصاب والإتلاف والإفساد بالأرض والإبادة ومحو الآخر.
وهي لم تضع للحرب قواعدا أثناء اندلاعها فقط، بل أرست قواعد واضحة لأسباب نشوبها، فبينت المعايير التي تجعلها حرباً مشروعة وعادلة وتلك التي تجعل منها ظالمة وجائرة.
ولقد أفاض فقهاء الشريعة الإسلامية في كتب السير وكتب الجهاد، في شرح وبيان قواعد وأحكام الحرب الواردة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين ومن تبعهم.
وتنطلق تلك القواعد من مبدأ راسخ وهو تعظيم حياة الإنسان وكرامته، لتصبح أولى القواعد ومرتكزاتها هي حماية النفس الإنسانية والحفاظ عليها ورفع قيمتها وصونها من المخاطر التي تعتريها في السلم والحرب إلا في حالات محددة ترفع فيها هذه الحماية قال تعالى: ) مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (. المائدة (3).
وانطلاقا من ذلك كان تحريم العدوان على الآخرين قاعدة راسخة وواضحة المعالم فنهي المسلمون عن قتال غير المعتدين وحرمت الشريعة الحرب العدوانية، قال تعالى: ) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( البقرة (190) فكانت الحرب مشروعة لردع الظلم والظالمين أي أباح الإسلام الحرب ردًا على الظلم، ودون نعدٍّ وتمادٍ بل بالقصاص العادل والتمسك بمكارم الأخلاق بالصفح والعفو عند المقدرة قال تعالى: ) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ( النحل: 126.
وكانت فكرة نصرة المظلوم جلية الظهور أيضاً، فقد حثَّ الإسلام عليها ودعا إلى مدِّ يد العون للمظلومين ونصرتهم والضرب على الظالم وردعه.
وعند اندلاع الحرب التي لا بدَّ منها أي لذات المسوغات المشروعة أمر الإسلام بوضوح بوجوب حماية المدنيين ومنع إيذائهم، فكان مبدأ التمييز ظاهرا وراسخا لدى جيوش المسلمين، وهو مبدأ جوهري وفريد سبق الفكر البشري بقرون طويلة فرَّق بين المدنيين والمقاتلين، ولقد شكَّل ذلك المبدأ تطوراً كبيراً في قواعد الحروب وأخلاقيات البشرية وإنسانيتهم.
ففي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لقادة الجيش في كافة الغزوات قال: (انطلقوا باسم الله وعلى بركة رسوله لا تقتلوا شيخًا ولا طفلاً ولا صغيرًا ولا امرأة ولا تغلوا “أي لا تخونوا”، وأصلحوا وأحسنوا إنَّ الله يحب المحسنين)، وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات امرأة مقتولة فغضب وقال: (ما كانت هذه تقاتل أو لتقاتل).
أمَّا مصير جثث القتلى من الأعداء في الحرب فقد جاء النهي عن عمليات التنكيل والتمثيل والتشفي بها، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور).
ووضع الإسلام منهجاً سامياً ومغايراً لتصرفات البشر في تلك الحقبة وما تلاها من قرون طويلة في معاملة الأسرى، يقوم على المحافظة على كرامة الأسير وحسن معاملته، قال تعالى: ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(، وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسرى خيرًا) .
وكان ذلك واضحاً في تصرفات الصحابة مع الأسرى حتى قيل عن ذلك: “إنَّ الصحابة أكلوا رديء الطعام وأسراهم أفضله”.
وأمَّا ما يخصُّ الأموال فقد كان لها أيضا نصيب من القواعد الواضحة، فدعا الإسلام إلى الحفاظ على البنية التحتية والمال العام والخاص، ونهى عن عمليات النهب واستباحة أموال الشعوب المهزومة وإتلاف أملاكهم ومزروعاتهم وتراثهم ومقدساتهم.
فهذا أبو بكر الصديق يوصي أمير أول بعثة حربية في عهده أسامة بن زيد فيقول: (لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له).
تلك كانت مجموعة من القواعد والمبادئ للحرب في الشريعة الإسلامية تشكل فلسفة قيمية للحرب في الإسلام نستعرضها في المقال القادم إن شاء الله.