نورس أبو نضال
حتى يستطيع المرء البحث في موضوع ما فلا بدَّ أن يحيط بخلفية مقبولة عنه، لذلك لا بدَّ من نظرة خاطفة عن الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية البشرية من حيث نشأتها وأهم سماتها العامة وسياقها وفلسفتها.
حقيقة لقد كان الإنسان بشكل عام يبحث منذ القدم عن العدالة وينشدها ويسن التشريعات تلو التشريعات في محاولة للوصول إليها، فكانت الولادة الأولى للقانون تتم في الأسرة والقبيلة عبر ما تنتج من أعراف وتقاليد، وظلَّ يتطور حتى نشأت الدولة التي قامت بتوحيد العادات والتقاليد المختلفة وجعلت منها قانوناً ملزماً.
فوجدت في العصور القديمة “كقوانين حمورابي والتشريع الروماني وبعض التشريعات لدى الإغريق والهند”، واستمرت هذه القوانين في التطور والتبديل والتعديل والتغيير تتابع السير حثيثاً لبلوغ الكمال، وما زال البحث والتطور مستمراً، إذ كلما تقدمت الجماعات البشرية في مجتمعاتها وعلومها وتفكيرها وآدابها يتطور القانون الوضعي معها ويتناسب طرداً مع تفكيرها.
وبدأت المرحلة الأهم في تطور القوانين في أعقاب القرن الثامن عشر، فكان تطورها كبيراً ملحوظاً ومتسارعاً.
بذلك فإنَّنا أمام ما هو متبدل متغير صادر عن العقل البشري، أي أمام ما بدأ صغيراً قليلاً ثمَّ كثر وكبر واشتدَّ عوده.
أمَّا الشريعة الإسلامية التي وضعت من قبل ربِّ البشر فلم تسر ذلك المسير، ولم تكن مشتتة ثم جمعت، ولا قليلة ثم كثرت، ولا أولية ثم تطورت، ولم تولد ضعيفة ثم اشتدَّ عودها في رحلة الزمن، لكنَّها نزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة جامعة مانعة.
نزلت في فترة قصيرة منذ بدء البعثة النبوية، وانتهت يوم قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
ولم تأتِ الشريعة لأسرة دون أسرة، أو قبيلة دون قبيلة، أو قوم دون قوم، بل جاءت للناس أجمعين، شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، عرباً وعجماً.
كما جاءت كاملة لا نقص فيها، ناظمة لأحكام الأفراد والجماعات والدول في جميع أحوالهم تنظم شؤون الدول سلماً وحرباً.
ممّا سبق ذكره نجد اختلافات عديدة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، إذاً فالقانون الوضعي هو من صنع البشر ونتاجهم، أمَّا الشريعة فمن عند الله، ويظهر في كلٍّ منهما صفات صانعه بجلاء ووضوح، ففي الأولى يظهر عجز البشر وضعفهم وقلة حيلتهم واختلاف أهوائهم وعقولهم وحاجتهم للتطور، أمَّا الثانية فيظهر فيها الكمال والقدرة والعظمة والإحاطة والثبات.
كما نجد أنَّ القانون قواعد تضعها الجماعة بشكل مؤقت لتنظيم شؤونها، فهو متأخر عن الجماعة أو مساو لها، لأنَّه لا يتغير بسرعة تطور المجتمعات، أمَّا الشريعة فقواعدها وضعت من الله عزَّ وجلَّ على سبيل الدوام ولا تقبل التبديل ولا تحتاجه، فهي تحمل من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طال الزمن بها من السمو والارتفاع ما لا يجعلها متأخرة مهما ترقت الجماعة.
ولقد كان تلون القانون وصبغته بعادات الجماعة وتاريخها وتقاليدها التي وضعته واضحا وجليا في مختلف العصور، فهو منظم لها وليس موجّه، ممَّا يقتضي أنَّها تضعه ولا يضعها فهو متأخر عنها.
إلا أنَّ هذا الحال تبدل بعض الأحيان في الدول بالقرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، فبدأت السلطات تسنُّ القوانين لتوجيه الشعوب وجهات معينة وأغراض معينة كما حصل في النظام الشيوعي بالاتحاد السوفيتي وتركيا الكمالية وإيطاليا الفاشية وألمانيا النازية.
أمَّا الشريعة الإسلامية فليست من صنع الجماعة وليست نتيجة تفاعلها، بل أصبحت الجماعة من صنع الشريعة، فكان المقصود من الشريعة خلق الأفراد الصالحين والدولة المثالية والعالم المثالي.
فنخلص من ذلك إلى وجود ميزات وصفات جوهرية، ممَّا سبق تميز الشريعة عن القانون وهي: “صفات الكمال والسمو والدوام، فكانت بذلك القوانين الوضعية كلما ازدادت تطوراً ورقياً فهي تقترب من شريعة جاءت منذ أربعة عشر قرنا ًأو يزيد”.
كما أنَّه لا مجال للمقارنة بين الشريعة والقوانين في الفترة التي نزلت بها بالقرن السابع الميلادي وما تلاه، فلقد أوجدت الشريعة نظريات لم تعرف الجماعات البشرية رقياً يقاربها حتى عصور طويلة وكفاح مرير ونذكر منها: (نظرية المساواة، نظرية الحرية، حرية التفكير، حرية الاعتقاد، حرية القول، الشورى، تقييد سلطة الحاكم، نظريات الإثبات والتعاقد، نظرية إثبات الدين التجاري، إلخ).
ونتيجة لتطور الجماعات توصل الفرد والجماعات في القرنين الماضيين إلى ضرورة وضع قوانين وقواعد للحرب، وكان هذا الوصول متأخراً. بينما كانت الشريعة الإسلامية سابقة للعقل البشري في هذا الميدان كما هو الحال بشكل عام.
ولقد كان ما سبق مدخلاً عاماً للمقارنة الكلية بين الشريعة والقوانين الوضعية ونظرة في ميزان منطقي لكلٍّ منهما.
لنذهب لاحقاً في رحلة موجزة نلقي فيها نظرة إلى ما توصل إليه الإنسان الآن وما جاءت به الشريعة منذ قرون في قواعد الحرب وقيمها، وهل أدرك الفقهاء الغربيون عظمة الشريعة الإسلامية ودورها؟