إن السعي وراء الحالة المثالية، يشبه السعي وراء السراب، لاستحالة تحققها، لكن المشكلة ليست هنا، فغالبية الأفراد والمجتمعات توصلوا لهذه القناعة بشكل أو بآخر، وأصبحت جمهورية (أفلاطون الفاضلة) مجرد حكاية للتعريض بأصحاب الفكر الطوباوي المستحيل، الذي ينزع للمُثل العليا بطريقة عبثية، ويتخيل أنه يستطيع الوصول إليها بمجرد إطلاق الشعارات وشتم المجتمع والواقع الذي يعيش في ظلمة المدينة الأرضية المليئة بالنزوات والشهوات وعلائق الحياة الدنيوية.
ولكن هذه المفهوم الذي يتعرض للسخرية منذ زمن بعيد، جعل الناس في حالة من الاستسلام أمام الواقع، وحالة من الهزيمة الداخلية أمام الواقعية والقدرة على التغيير، فإذا كان من العبث محاولة الوصول إلى حالة مثالية غير متحققة على الأرض، فلماذا عليّ أن أعمل من أجل القيم والأخلاق، وغيري من الناس يستغل الطبيعة المادية النفعية للحياة ليحقق مكاسب تجعله محط أنظار الآخرين، وتتجاوز الكثير من سقطاته.
اقرأ أيضاً: الانتكاسة الحضارية للحريات
وبغض النظر عن هذا الاتجاه الأحادي الجانب، يقع المؤمنون بأهمية الجانب الروحي والأخلاقي في يأس مشابه، نتيجة سيطرة الاتجاه الأول بشكل كبير، ونتيجة إيمانهم باستحالة تحقيق العدالة أو المُثل التي يطمحون إليها، وكلُّ ذلك يحملهم على الزهد والانزواء؛ للتنسك والعبادة.
إن الإمساك بالجانبين معًا غير كافٍ لتجاوز حالة الإحباط الممكنة، لكن الانزياح في مفهوم المثالية ربما يستطيع تجاوز هذه الحالة، عندما نعيد تعريفها بالسعي والعمل من أجل المُثل، بغض النظر عن تحقيقها بشكل كامل أو جزئي، عندما نعمل لإعادة فهم الحالة المثالية في المجاهدة وليست في النتائج، فالمثاليون هم الأشخاص الذين يعملون بدأب من أجل الوصول إلى المدينة الفاضلة، وليسوا أبدًا سكانها ولا حكامها إن حدثت.
إن الحالة المثالية تكمن في القدرة على المواجهة، والقدرة على السير في طريق التغيير، والقدرة على التفكير بشكل مختلف عمّا هو سائد، هذه هي الأفكار المثالية الجديدة والقابلة للتحقق، وليست في تلك النتائج التي قد تحدث أو لا، وإن حدث بعضها في جيل، فربما لا يحدث بعضها الآخر إلا في أجيال لاحقة قد تخسر ما تم تحقيقه سابقًا.
إن النزوع نحو العمل والسعي والمكابدة، هو الحالة المثالية الكاملة التي نريد تحقُّقها في الأجيال القادمة، والمدن الفاضلة في هذا التصور هي تلك المدن التي تشهد ولادة الثورات الكبرى في سبيل القيم والمبادئ والحرية، وليست التي تحقق النصر فحسب.
فالمثالية الحقَّة هي ذلك الامتداد المتماسك من أجل تحقيق التغيير، وهي لحظة عمل دؤوب لا تعرف اليأس على الإطلاق.
المدير العام | أحمد وديع العبسي